وليد المعلّم: حيث السياسة فن اللا شيء!

 

تعيد قوانين وبرامج العقوبات الاقتصادية، أو ما تعرف بالحصار الاقتصادي، الأنظمة المعاقَبة إلى استعارة خطابها من قواميس وأدبيات أنظمة سبقتها إلى عالم العقوبات، وهو بالضبط ما حصل خلال المؤتمر الصحفي الأخير لوليد المعلّم، وزير الخارجية السوريّ، الذي دعا، أو ربّما أثنى على "قانون قيصر" عبر قوله إنه "يجب تحويل هذا القانون إلى فرصة للنهوض باقتصادنا الوطني وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتعميق التعاون مع الأصدقاء والحلفاء في مختلف المجالات".

 

في واقع الحال، جرّبت أنظمة حكم أخرى مُعَاقبة ذات الخيارات التي طرحها المعلّم، من كوبا كاسترو إلى عراق صدّام حسين فإيران المرشد الأعلى، وفنزويلا وكوريا الشمالية، فهل تحقّق شيء من أسطورة "الاكتفاء الذاتي" وهل نهضت اقتصاداتها أو أفادها "تعميق التعاون مع الأصدقاء والحلفاء"؟ لا يحتاج الجواب إلى كبير عناء، فيما واقع حال جميع الأنظمة التي رأت في العقوبات فرصة ذهبية للتشمير عن سواعدها وتحقيق اكتفائها الذاتي وأمنها الغذائي، بل ورأت في العقوبات مقدّمة لتأسيس نهضتها الصناعية المتخيّلة. لم تحقّق تلك الدول شيئاً من وعودها، غير أن العكس هو الذي حصل، حيث جرّت الأنظمة المعاقبة طوابير مواطنيها من الطبقة المتوسطة إلى تحت خطّ الفقر، وأنهكت عملتها المحلّية، فضلاً عن أن المساعدات الطفيفة التي جاءت من دول "صديقة أو حليفة" لم تشكّل الفارق المأمول، فوق كل ذلك تردّت وسائل الاكتفاء الذاتي وانهار معظمها، ذلك أن من أساسيات الاكتفاء الذاتي وجود بنية تحتيّة صالحة وقابلة للصيانة، وهو ما تفتقر إليه سوريا، إن نتيجة للحرب المدمّرة الدائرة، أو نتيجة لعدم بلوغ الدولة "مرحلة التصنيع" في الأساس، بمعانٍ أخرى، يبدو الوضع في سوريا كارثياً قياساً، بالدول/الأمثلة المساقة، ذلك أن معظم الدول المعاقبة كانت تنتمي إلى عائلة الإنتاج النفطي، أو إلى دول توفّرت لديها بنية تحتية أكثر ملائمة من السورية وتراث صناعيّ أكثر تقدّماً، الأمر الذي يجعل من كلام الوزير السوريّ، مجرّد إنشاء ورطانة لغوية لا معنى لها.

 

لطالما وُصف المعلّم بالهدوء وضبط الأعصاب، ولعلّ غاية الأمر أنه يتحدّث ببطء مضجر يخاله المراقب هدوءاً وتمالكاً للنفس، بيد أن المعلّم وفقاً لسير عمله فترة الأزمة السورية، امتاز بالتصريحات الحادّة والغاضبة وإن قيلت كلماته بصوت خافت شبيهاً بكلمات الدبلوماسيين، من ذلك ما قاله في وصف مايك بومبيو وجيمس جيفري حيث وصفهما بـ "جوقة من الكذّابين" أو عبارة "كل ما علينا فعله أن نقلب الشحّاطة ليزدادوا سعيراً" في معرض ردّه عن سؤال صحفيّة سألته عن الانتخابات الأمريكية، على ما يحتويه هذا التعبير من احتقار لفكرة الانتخابات وتداول السلطة. رّبما يعرف المعلّم كما النظام السوريّ أن الشتيمة وتوجيه الكلام النابي لا تأخذه الدول الكبرى، لا سيّما الولايات المتحدة، على محمل الجد، بل تدرجه في سياق فقدان الخصوم لتوازنهم واهتزاز مواقعهم.

 

وفيما عجّت القاعة بمراسلين كان جلّهم ممثّلي إعلام واحد أوحد قام بتغطية المؤتمر الصحفي لوزير الخارجية السورية حملت أسئلة الصحفيين في طيّاتها إجابات الوزير نفسه، وبلغة صحفية متخشّبة لا تطمح إلى استفزاز أو إحراج الوزير ولا تفرض عليه بذل أدنى جهد ذهنيّ حاول بعض "الصحفيين" تسديد اللكمات إلى قانون "قيصر"، بدل طرح أسئلة تحمل مخاوف وخشية المواطن السوري من القانون أو الحديث عن خطة الحكومة لتلافي ارتداداته؛ المؤكّد أن لا خطّة لدى الحكومة لمواجهة تبعات قيصر، وهذه هي بالتحديد خطّة النظام المبهرة!. 

 

أراد صحفيّ متحمّس لفت عناية المعلّم إلى شمال شرقي سوريا والتواجد الأمريكي فيها وعن "عنصرية" و"إرغام" مقاتلين على حمل السلاح في صفوف قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وإمكانية تنظيم مقاومة ضد الأمريكان أو انقلاب على قسد حال تدخّل الجيش العربي السوري، لا شكّ أن المعلّم أدرك أن الصحفي اختلق وقائع ومنّى نفسه بمسائل لا تخطر على بال، إذ أن الوقائع على الأرض تشي بتماسك قسد واضطراد عملية تمثيل أبناء المنطقة الشمال شرقية في صفوفها على نحو متوازن، لذا لم يبق أمام الوزير سوى الإشاحة إلى مسألة رواتب المقاتلين وربطها بـ "سرقة النفط"، وأن ثمّة "هيمنة كردية"، فيما لم يدعو المعلّم إلى وجوب التفاوض مع قسد، بل خفّض سقف التواصل وربطه بمسائل خدميّة، كنقل الحبوب إلى مناطق النظام، وامتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية، لكّأن الدبلوماسية لا تفترض في جزئها الواقعيّ الدعوة إلى حوار بين النظام وقسد، أسوةً بالحوارات وجولات التفاوض التي خاضها النظام في جنيف، بمعزلٍ عمّا تمخّض عنها من نتائج، إذ أننا نتحدث عن المبدأ العام، وهو إمكانية الحوار والتفاوض.

 

رغم أن صحفيين حاولوا طرح أسئلة خارج قوس سوريا و"قيصر"، كالحديث عن المسألة الفلسطينية والأوضاع في ليبيا، تعامل المعلّم على نحوٍ منفصلٍ عن الواقع، إذ عرض في غمرة حديثه دعمه للموقف المصري في ليبيا وإمكانية مساعدتها، لكن كيف؟ لا يهم، ذلك أن المهم هو قول شيء، وإن كان بلا معنى؛ فأحوال السياسة الرسمية السورية باتت والحال هذه، تعرّف السياسة بأنها فن اللَا شيء.

 

في مطلق الأحوال، لا يمكن للسياسة الخارجية أن توجد حال غياب السياسة على المستوى الداخليّ، أو لأجل توخّي الدقة، لا يمكن أن توجد عملة بوجه واحد، لكن الأسوأ في حالة النظام أنه بات عملة بلا وجهين، حيث لا سياسة داخلية ولا خارجية، مذ قرّر ما قرّره مطلع عام 2011.