"فاجعة عامودا" والنسيان المأمول

 

مرّر باتريك زوسكيند في روايته الأثيرة (العطر – قصّة قاتل) فكرة مركّبة وبالغة الدلالة حول أهمية النسيان، حيث وتحت تأثير العطر الساحر الذي يكفي وضع قطرة منه إثارة غرائز ومشاعر من يشمّونه، وفي بلدة حيث تجمّع الناس بانتظار إعدام صانع العطر المتورّط بجرائم قتل، ينجح "القاتل" في بث أريج عطره في اللحظات القليلة المتبقّية قبل تنفيذ الإعدام؛ فيدخل الجمهور في حالة هستيرية تحت تأثير العطر، لتنطلق الغرائز البدائية، وخلال لحظات يرتكب الجميع، دون وعي، الخطايا المريعة، وتتحوّل الأجواء إلى حفلة مجونٍ عارمة، لكن بعد انسحاب أعراض العطر واختفاء تأثيره يصحو الجميع على واقعٍ مخزٍ يلفّهم جميعاً، فيقرّر الجميع نسيان ما حصل، ربّما لم يكن أمام الجميع طريق آخر سوى سلوك طريق النسيان الواعي.

 

  ينقل إلينا أوموت أوزكيريملي، في كتابه الحاوي "نظريات القوميّة"، رأي المؤرّخ الفرنسي إرنست رينان حول أهمية النسيان كعامل مؤسس في نشوء الأمم واعتباره مكوّناً بالغ الأهمية إلى جانب عوامل أخرى؛ يطلق رينان على هذا النسيان الضروريّ تسمية مميّزة وهو "النسيان الجمعيّ"، حيث "…كل مواطن فرنسيّ يجب أن ينسى مذبحة سان – بارثولوميو"، ولعل المذبحة المومأ إليها هي تلك التي حصلت إبان الحرب الدينية بين الكاثوليك الذين استهدفوا البروتستانت الكالفانيين(الهوغانو) والتي راح ضحّيتها الآلاف في العام 1572، عشيّة مولد القدّيس بارثولوميو الرسول.

 

لا يقصد بالنسيان الواعي أو الجمعيّ، نسيان الضحايا، بل الإرادة السياسيّة الواعية لضرورة إجراء المصالحات عبر الصفح عن كل الأطراف، والأشخاص، التي ضلعت في ارتكاب الانتهاكات في لحظات الفوضى مأخوذة بتأثير وهج السلاح وسحر العنف والرغبة في السيطرة والغلبة، ذلك أن المقصود بالنسيان هنا هو الذهاب إلى مصالحات مفتوحة لأجل صون السلم الاجتماعي والتأسيس لمرحلة جديدة، بمعنى من المعاني، هو نسيان الجرح وليس المجروحين.

 

في الأثناء ثمّة اشتغال على مصالحة تقودها قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، فيما خصّ أعمال العنف التي ارتكبت في عامودا 2013، إذ يسجّل لقسد استعدادها جبر الضرر والاعتذار لذوي الضحايا، بما تمثّله المسألة من سابقة سوريّة مذ بدأت الحرب الأهلية وعمّت أعمال العنف والتدخّل العسكريّ الخارجيّ الجغرافية السوريّة، غير أنه ثمّة عصيّ وضعت في عجلات عربة النوايا الطيبة التي سيّرتها قسد مع لجنة من وجهاء البلدة، إذ سُطّر بيان باسم "عوائل شهداء كرامة عامودا" والذي دعا إلى مسائل غير قابلة للتحقيق، بل إنه كتب بلغةٍ عدميّة، وبالتالي قد يؤدي تعنّت البعض عبر فرض الشروط الصعبة إلى نسف مبادرة قسد برعاية قائدها العام، وبالتالي إمكانية عودة الانقسام، إلى البلدة، وإلى داخل أسر ضحايا عامودا أنفسهم، فضلاً عن الإحباط الذي سيطال الرأي العام الذي استبشر خيراً في مساعي المصالحة التي قد تؤسّس لمرحلة جديدة، وحيث أن مساعي وحدة الصف جاءت، فضلاً عن الرعاية المحلّية لها، بدعم أمريكيّ وفرنسي، في حين كانت مبادرة المصالحة في أحداث عامودا ذاتيّة، ما يجعل التنصّل منها أسهل، وفي هذه الحالة سيلام من تسبّب في نسف عملية المصالحة حتى وإن كانت الجهة التي حاقها الظلم والحيف، وهي هنا أسر الضحايا، التي قد تخسر بذلك حدود التعاطف والتضامن الذي نالته في فترات سابقة.

 

ولأننا في سياق "مديح النسيان" لا بد من التعريج على ما حصل في كردستان العراق إبان "حرب الأخوة" في تسعينيات القرن الماضي (1994-1996)، بين حزبي الديمقراطي والاتحاد الوطني، الكردستانيين، حين أودى تطاحنهما وخوضهما حرب إلغاء قاسية، بأرواح آلاف الضحايا، فضلاً عن صراعات الأحزاب مع العشائر المحلّية، والتي لم تقل فظاعاتها عن الحرب الأهلية، لكن استذكار تلك المرحلة لا يعني إعادة تنشيط الذاكرة إلّا في موضع محدّد وهو توافر إرادة السلام بين الحزبين والمجتمع الكردستانيين، إذ أن الاحتكام إلى النسيان هو الذي حصل في نهاية المطاف، بل لا تكاد تعثر في أدبيات الأحزاب الكردستانية العراقيّة إلى ما يشي بتبادل اللوم مذ قرّرت الأطراف طيّ صفحة الحرب وبشاعاتها، ولعلّنا بذلك نشير إلى نظريّة رينان، حول النسيان الجمعيّ.

 

يحسب للطبقة السياسيّة بكردستان العراق ابتداع مصطلح "قتل الذات" عوضاً عن الحرب الأهلية أو "حرب الأخوة" الأمر الذي ساهم بدوره في حصر الذاكرة في موضع محدّد وهو أن القتال كان أقرب إلى "الانتحار" وبالتالي حفّز التلاعب اللفظي المحمود، المجتمع والأحزاب للتوقّف عن فكرة الإلغاء والشطب السياسي والفيزيائي بحق الآخر الحزبي أو العشائريّ أو الجهويّ المختلف.

 

شيء قريب من اصطلاح "قتل الذات" عمدت قسد إلى استخدامه عبر عبارة "الفاجعة" عوضاً عن الرأيين المتعارضين القائلين بتسمية أحداث عامودا "مجزرة" أو "رد فعل طبيعي".

 

على أيّ حال، أمام كرد سوريا فرصة إرساء سلم أهلي حقيقي والاعتذار عمّا وقع من انتهاكات وممارسات خاطئة، كما أن مبادرة قسد وجهود الوجهاء المحليين في هذا الصدد تحتاج إلى مزيد من الصبر والمثابرة، على الرغم من محاولات المتصيدين ومسعّري الخلافات، وعليه الطريق أمام المصالحة النهائية يمرّ بالنسيان، نسيان الأذى، والجرح، لا نسيان الضحايا وبدلاً من الانقسام الحاصل، في إمكان المصالحة أن تجعل من ضحايا فاجعة عامودا "شهداء المجتمع الكردي برمّته"، بدل الاحتفاظ بهم "شهداء" جهة سياسية تزعم تبنّيهم أو حارة في بلدة أو عائلات بعينها.