جدل الثنائيات السوريّة

 

عاود "معارضون" إلى إلحاق الفشل العميم الذي طاول "الثورة" السوريّة، بثنائية "ريف ومدينة"، وعلى ما تستنبطه هذه العبارة من نزعة مدينيّة فوقيّة، فإنها بحاجة إلى سبر سوسيولوجي وشروحات مستفيضة، وإلّا بقيت أقرب إلى توصيف ذرائعيّ يبرّر الإخفاقات التي منيت بها المعارضة، لا سيّما تلك التي كانت حتى وقتٍ قريب تلتحف بالسلاح وترجئ إسقاط النظام إلى حين مراكمة السلاح والمسلّحين، أنّا كانت هوية حملة السلاح، وأيّاً كانت الجهة الدولية أو الإقليمية التي تقدّم ذاك السلاح.

 

قبل الركون الأخير إلى هذه الثنائية (ريف –مدينة)، ذهبت اتجاهات معارضة إلى استحداث ثنائيات أخرى وجعلت من رأيها في هذا الصدد بمصافي القول المقدّس الذي لا يأتيه الباطل، مثل الاشتغال الطويل على ثنائيّة "علوي وسنّي"، واجترار العبارات المحرّضة على الكراهية وفقاً للمنطق الطائفيّ المغلّف بالقراءات الغربيّة التي لا تخلو من نظرة استشراقيّة تحاول تفسير مسألة احتكار السلطة عبر الاعتماد على نظرية ابن خلدون عن "العصبيّة" أو إميل دوركايم في شرحه فكرة "التضامن الآلي"، ودون عناء أو محاولة جدّية من قبل كتّاب ومثقّفين معارضين تمّ تحوير الصراع الجوهري الذي كان يفترض أن يبقى صراعاً بين ثنائيات أخرى مثل الصراع بين الديكتاتورية والديمقراطية، وبين النظام الأمني والقمعي وبين المعارضة الديمقراطية،  وبين الدولة العسكرية وبين الدولة المدنية أو دولة العدل والقانون المنشودة.

 

لا شكّ أن الحديث عن ثنائيّة "عرب وكرد" ما تزال سارية المفعول في الوقت الذي تراجع الحديث عن ثنائية علوي وسنّي، وذلك نزولاً عند رغبة دول إقليمية تشرف على مهمّة تحطيم الكرد السوريين؛ إن أحد وجوه تبرير فشل المعارضة مردّه تحميل الكرد وزر بعض ما تتعرض له من هزائم عسكرية وسياسية وأخلاقية، ومحاولة التهرّب من سؤال المصالحة الوطنية لصالح الإبقاء على شكل المعارضة الفئوي والطائفيّ والمؤتمر بتعليمات الخارج وأجنداته.

 

بالعودة إلى الطبعة الجديدة من الثنائيات المتخيّلة والتي يحاول "أفذاذ" في المعارضة إرجاء الإخفاقات والعنف والعسكرة إليها، عبر احتساب الريف سبباً للبلاء فيما المدينة مصدراً للعقلانية وبعد النظر والنضال اللاعنفيّ، يمكننا عبر جردة حساب، معرفة أن الريف والمدينة متداخلين إلى حدّ بعيد في الحالة السورية، حيث أننا في إزاء مدينيين كانت لهم إقطاعات وأرومة وعمق ريفي، وريفيين اندمجوا في المجتمعات المدنية وباتوا في عدادها، بكلمات أخرى، ليس الانتماء إلى المدينة أو الريف قدراً أو دمغةً لا يمكن تبديلها، زد على ذلك إن تعريف المدينة ملتبس هنا، إلّا إذا كنّا نعني بالمدن حلب ودمشق وحماة وحمص، حيث أن جلّ المدن السوريّة الأخرى تأسسّت على قاعدة اتساع المدن الصغيرة وترابط الأرياف المحيطة وتوسّع الجهاز البيروقراطي للدولة ووفرة الخدمات العامّة في المدن المستحدثة قياساً إلى الريف.

 

لم يكن تغيير التركيبة الديمغرافيّة في المدن الكبرى سوى جزءٍ من سياق تكديس الجهاز البيروقراطي في المدن وإهمال الريف، أمّا تغيير النمط العمراني للمدن وانتعاش العشوائيات فهو ليس وليد ثقافة ريفية بقدر ما هو ناجم عن الفقر والفاقة والتي أدّت إلى تشكّل أحزمة الفقر حول المدن، وتحطيم الضابطة التنظيمية للمدن وأنماط عمرانه التقليدية أو الحديثة.

 

في محاولة تصنيف الديكتاتوريات التي حكمت سوريا إلى أبناء ريف وأبناء مدينة، فإنّ حسني الزعيم وسامي الحنّاوي وأديب الشيشكلي وأمين الحافظ كانوا من أبناء المدن، في حين أتى حافظ الأسد من الريف، والمعنى ليس توسّل العنف لبلوغ السلطة مرهوناً بأبناء الريف، والمعنى الآخر، ليس توسّل السلاح لحظة انزياح الاحتجاجات الشعبية السورية إلى العسكرة محض بادرة ريفيّة، وبإمكاننا ذكر أمثلة عن مسلّحين ريفيين وآخرين مدينيين.

 

يقودنا الحديث عن ريف "آثم" ومدينة "فاضلة"، أو العكس حيث الريف النقيّ والبريء والمدينة المدنّسة والشريرة، إلى مزيد من اللهو والتجريب غير المرغوب به، وتضييع البوصلة الحقيقية في مسار إيجاد حل للمأساة السورية، أو لنقول إن ابتداع ثنائية ريف ومدينة يزيد في طمبور الانقسام نغماً، على ما يشكّله من مشجبٍ تعلّق عليه بعض أطراف المعارضة خيباتها وإخفاقاتها وتحليلاتها البائسة التي أتحفتنا بها على مدار السنوات الفائتة.

 

تعجّ لغة السوريين بالكثير من خطب الكراهية، الطائفيّة والعرقيّة والجهويّة، لكن، وللحق، ليس تقسيم السوريين إلى أبناء مدينة وريف تقسيماً مستحدثاً أو وليد الأزمة السوريّة، بل ينتمي إلى عوالم المدن السورية المغلقة، والتصوّرات المسبّقة عن ريف بائس قليل التحضّر، ومدينة ترفل بالعادات البرجوزاية المميزة وبالتنظيم والخدمات العامّة ووسائل الترفيه والسيادة.

 

من ثنائية إلى أخرى يتنقّل معارضون مطلقين أحكام قيمة مختصرة، حيث القوالب تبدو شديدة السطحية إذ يوضع الكل في مواجهة الكل عبر لعبة غير بريئة، حيث السنّي في مواجهة العلويّ، الداخل في مواجهة الخارج، الكرديّ في مواجهة العربي، الدرزيّ في مواجهة البدويّ، وأخيراً المدينيّ في مواجهة الريفيّ، علماً أن روّاد الثنائيات كانوا سبّاقين في وضع علم في مواجهة علم وسلاح في مواجهة سلاح، بكلماتٍ أخرى، ثمّة "أساتذة " في تقسيم المجتمع، وحسبنا أن ننتظر أين سيحط بهم المقام في المرّات القادمة وأيّ ثنائية قادمة تنتظرنا!.