انتخابات في بلاد البعث

في إحدى أوجهها تمثّل الانتخابات فعلاً محرّكاً للسياسية لأجل أن لا تركد وتستنقع، غير أن الانتخابات في سوريا تحمل في طيّاتها مفارقة، فهي تعني العكس لجهة أنّها تعني تثبيط السياسة ومنعها وتعطيلها، وما انتخابات "مجلس الشعب" الأخيرة التي جرت في 19 من الشهر الجاري، سوى مثال على ترديّ السياسة وتعفّنها، إذ وبمعزل عن القوائم المعدّة مسبقاً، وتجاوز حالة التزوير إلى التعيين، واقتصار الانتخابات على موالي النظام ومناطق سيطرته حيث أن نصف سكّان سوريا باتوا إمّا لاجئين أو نازحين، فإن الانتخابات تمثّل رفض النظام المبدئي للقرار الدولي (2254) حيث تشكّل الانتخابات التشريعية الأساس لعملية الانتقال السياسيّ.

 

منذ أن اختار النظام والمعارضة الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وبغض النظر عمّا نجم عن تلك المفاوضات، أصبح العنوان العريض للاحتكام إلى التفاوض برعاية دولية هو التنازل عن فكرة "السيادة"، أو لنقل وضع السيادة جانباً إلى حين إنجاز اتفاق دولي-سوري للانتقال الديمقراطي، وعليه تصبح الانتخابات عملاً سيادياً حال الانتهاء من التفاوض، وبالتالي تصبح الانتخابات التشريعية تحدّياً أوّلياً للقرارات الدولية، ذلك أنها خرجت عن كونها عملية انتخابية تتبع لمبدأ السيادة السورية بل باتت تعني تعطيل الحل السياسي، فيما حاجج وزير الخارجيّة السوري وليد المعلّم بشرعية الانتخابات بالقول "سوريا مصمّمة على ممارسة سيادتها الوطنية ورفض أي تدخّل خارجي في شؤونها"، تصريح الوزير يعني تنصّل النظام من الالتزامات التي أقرّ بها في جنيف وعلى مدار جلسات مارثونيّة أفضت إلى ما يعرف بسلال دي مستورا الأربع والتي من بينها سلّة الانتقال السياسي.

 

رغم إلغاء دمشق المادّة الثامنة من الدستور والتي كانت قد جعلت من حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع رفقة الجبهة الوطنية التقدّمية وأمّنت للبعث وشركائه نصيب الأسد في "مجلس الشعب" على مدار عقود، إلّا أن إلغاء المادّة الدستوريّة لا يعني تنازل البعث عن حصّته الخالدة، إذ أبقت الانتخابات الأخيرة على هامش /65/ مقعداً للمستقلّين فيما بقية المقاعد فمخصصة للبعث وشركاه (185 مقعداً)، لكن واقع الحال في الانتخابات الثلاثة التي جرت منذ بداية الأزمة السوريّة يشير إلى أن النظام استحوذ على /250/ مقعداً وبواقع (صفر) مقعد للمعارضة، ذلك أن المستقلّين أيضاً ينتمون إلى بطانة النظام وقاعدته الصلبة، سواء أكانوا رجال أعمال أم فنانين أم رجال دين أو وجهاء عشائريين فهم بالمحصّلة "زبائن" البعث، في الوقت عينه أفادنا الوزير المعلّم بعبارة سريالية لمناسبة إجراء الانتخابات حيث أن: "مسيرة الديمقراطية بخير".

 

تعليق الولايات المتحدة الأمريكية جاء على لسان المتحدّثة باسم الخارجية، مورغان أورتاغوس، والتي ركّزت على الجوانب الإجرائية، من مثل: " الضغط على المواطنين " وعدم وجود ضمانات لسرية الاقتراع"، وتوزيع استمارات مملوءة مسبقاً لمرشحي حزب البعث. إن هذه المسائل وسواها، تمثّل مسلك النظام الوحيد للتعامل مع الانتخابات، حيث لا قيمة للشفافية والنزاهة، ورغم أن واشنطن أرادت تسليط الضوء على جثّة الديمقراطية السورية، وهي جثّة قديمة ومتحلّلة عبر الحديث عن الجوانب الإجرائية وانتقاد الانتخابات وفق الأصول الديمقراطية المرعية في العالم الديمقراطي، إلّا أنها رأت كذلك في الانتخابات سعياً لإضفاء "شرعية زائفة" و"تفادي تحقيق العملية السياسية كما ينص عليها قرار مجلس الأمن (2254)"، وبالتالي لا تعترف الولايات المتحدة بالانتخابات البرلمانية، وبطبيعة الحال، لن تكترث دمشق بالانتقادات الدولية، لا سيّما تلك الصادرة عن واشنطن، ما يعني أن تعنّت دمشق سيقابله تصلّب أمريكي.

 

في الجانب الآخر لهذا الحدث الانتخابي الذي يراه السوريون موضوعاً هامشياً، نَفذت تركيا إلى المشهد مجدداً عبر تصريح للرئيس التركي الذي ربط بين بقاء قوّاته في سوريا إلى حين "تحقيق الحرية والديمقراطية"، وهي من العبارات الملساء التي تضمر حجج أنقرة للبقاء أكثر في مستعمراتها السوريّة، إذ أن تعطيل النظام للحلول السياسيّة عبر التفرّد بالقرارات التي تخصّ السوريين جميعاً، يعني في فصلٍ ما، منح تركيا الذرائع للبقاء المديد في سوريا، رغم أن تركيا لن تعدم الوسائل والحجج والذرائع للبقاء في سوريا أمداً أطول.

 

ولأننا في صدد الحديث عن الانتخابات، لا بد من أن نعرّج على حدث انتخابيّ "سوريّ" مشابه، حيث القوائم المعدّة سلفاً، ولعبة تبديل الكراسي بين أعضاء الائتلاف حيث جرى تبديل موقعي رئيس هيئة التفاوض ورئاسة الائتلاف على نحوٍ يحمل على الأسى، إذ إن الديمقراطية التي يريد شقٌّ في المعارضة ترسيخها لا تختلف عمّا رسّخه النظام، لكن بفارق الحذاقة والتذاكي اللذين صبغا مسلك الائتلافيين، حيث استبدلا الكراسي فيما بينهم عوضاً عن الاحتفاظ بها، بيد أن ما قام به محتجّون في إدلب عبر ضرب صور رئيسي الائتلاف نصر الحريري وهيئة التفاوض أنس العبدة بالنعال يشي بمقدار القبول الشعبي لهما وبالفرح والحبور بفوزهما الانتخابيّ!.

 

خلال الأعوام المنصرمة راقب السوريون الانتخابات في الجوار، اللبنانية والتركية والعراقية، ولعلهم شعروا بما يعتمل صدور الناخبين والمرشّحين، فيما يبقى حلم تلوين الأصابع بالحبر الانتخابي غاية الأمر، وإذا كانت انتخابات البعث مثيرة للضحك، فإن ما أقدمت عليه المعارضة في تركيا من تحطيم للنزر اليسير من الديمقراطية يكفي لأن يثير الشفقة، وفي كل الأحوال تبقى الانتخابات في الضفتين، النظام والمعارضة، جهاز تجفيف السياسية والحؤول دون التغيير، وهذا ما لا يمكن أن توصف به أي ديمقراطية في العالم، إلّا ديمقراطية بلاد البعث.