عبد الناصر والكرد والمقاربة المختلفة

شورش درويش

 

عمّت المظاهرات مدن كردستان العراق تأييداً لمصر الناصريّة إبان إعلانها تأميم قناة السويس 26 تموز 1956، ونتيجةً للتأييد الكردي الذي قاده الحزب الديمقراطي الكردستاني لموقف مصر، وُضع إبراهيم أحمد رفقة قيادات حزبيّة أخرى قيد الإقامة الجبرية، وقُتل وجرح وسجن العشرات من كرد المحافظات الكردية لا سيّما كركوك والسليمانية، أما الملّا مصطفى البارزاني الأكثر حماسة لقرار التأميم فقد عبّر من منفاه السوفيتي عن سعادته لموقف موسكو بالوقوف إلى جانب مصر بالقول "كنت أبكي على مصر والآن أبكي فرحاً لأجل مصر"، كما أبرق إلى القاهرة مبدياً استعداده الذهاب والقتال إلى جانب مصر، صحبة مقاتليه البارزانيين، في معركتها الكبيرة التي تخوضها في السويس بمواجهة العدوان الثلاثيّ، وفيما كان الموقف الكرديّ ثوريّاً إلى أبعد مدى، كان نوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق، في زيارة لنظيره البريطاني إيدن يطلب إلى الإنكليز ضرب ناصر "اضربوه، اضربوه بقسوة!".

 

"هنا القاهرة إذاعة صوت العرب – القسم الكردي"

 

وفيما كان العراق يدور في فلك بريطانيا عبر حلف بغداد، أطلق العراقيون محطة إذاعية "صوت مصر الحر" في مواجهة "صوت العراق الحر" التي أطلقتها القاهرة، فيما استفاد الكرد من التجاذب بين بغداد والقاهرة، حيث التمس جلال الطالباني في دمشق ( 1957) حين التقى وزير شؤون الرئاسة المصري كمال الدين رفعت إطلاق محطّة إذاعة ناطقة بالكردية، وخلال فترة قصيرة كان للأكراد ما أرادوه، ليُعيّن الشيخ عمر وجدي الماردينيّ آخر شيوخ الرواق الكردي في الجامع الأزهر، مشرفاً على القسم الكردي في إذاعة القاهرة والتي عمل فيها كرد سوريون وعراقيون كان منهم، فؤاد معصوم الذي سيغدو رئيس العراق اللاحق، ومحمد كريم شيدا، وعبدالوهاب الملّا من سوريا، كانت مدّة البث قرابة ساعة، تفتتح بالنشيد القومي "أي رقيب" ولعل رمزية المحطة أغاظت كلّاً من نوري السعيد الذي طالب ناصر بإغلاق المحطة وعدم اللعب بالورقة الكردية التي "ستحرقه"، فيما يذكر عمر شيخموس أحد مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني، وكذا  غسان شربل، أن السفير التركي طلب لقاء الرئيس المصريّ لأجل إغلاق الإذاعة، لكن ردّ ناصر كان حاذقاً حين قال "إن المحطّة موجهة لكرد العراق وسوريا وأنتم تقولون لا وجود للكرد في تركيا " وعندما أكّد السفير التركي وجود أكراد في تركيا، وهو بذا خرج عن النصّ الأتاتوركيّ الذي لا يعترف بوجود الكرد، أخرج ناصر ورقة بيضاء طلب إلى السفير الإقرار بوجود الكرد في تركيا وحينها سيتخذ ناصر "الإجراء اللازم" إزاء الإذاعة، لكن المفارقة الأخرى كانت في سلوك السوريين التوّاقين إلى الوحدة على اعتقال ومطاردة الكرد السوريين الذين يستمعون إلى فقرة البث الكردي، في عفرين والجزيرة، وهو العسف الذي قاده رجل المكتب الثاني النافذ عبد الحميد السرّاج، والذي عاود الكرّة حينما أقدم على اعتقال قيادات الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا في زمن الوحدة، في حين اعترضت إيران بدورها على إنشاء المحطّة وأقامت إذاعة كردية بأمر من الشاه محمد رضا بهلوي في كرمنشاه للرد على خطاب الإذاعة الكردية- الناصريّة.

 

مفاوضات في بيت العرب

 

بارك الديمقراطي الكردستاني الوحدة السورية المصرية، وأرسلت قيادته التبريكات للرئيسين جمال عبد الناصر وشكري القوتلي، لكن القسوة التي كرّسها السرّاج تجاه الكرد السوريين، خفّضت من توقّعات كرد سوريا الذين لم يكونوا يناصبون دولة الوحدة العداء وساهمت اعتقالات السرّاج في تبادل الكرد والعرب الريبة والشكوك، رغم أن البارزاني حلّ في العام 1958 ضيفاً على عبد الناصر، رئيس دولة الوحدة، إبان عودته من منفاه السوفيتي قبل عودته إلى العراق الجمهوريّ، والذي عنى الكثير لكرد سوريا والعراق على حدّ سواء، لكن محاولات الزعيم عبدالكريم قاسم في احتواء القضية الكردية، أبعد القاهرة مسافة جيدة عن الحضور على المسرح الكردي، لكن في نهاية المطاف أدى مسلك قاسم غير المفهوم والحديّة تجاه الكرد إلى اندلاع ثورة أيلول 1961، بدوره فاوضت الثورة الكردية "العروبيين" بعثيين ووحدويين، ومع نجاح انقلاب شباط، وضعت حكومة البعث القضية الكردية في صلب جدول أعمالها، وكان للقاهرة دور كبير في احتضان المفاوضات الأوّلية التي حضرها عن البعث صالح مهدي عمّاش، علي صالح السعدي، طالب شبيب، فيما تألف الوفد الكردي من فؤاد عارف وجلال الطالباني، كان ثمّة تفويض من كلَي الطرفين لناصر لإيجاد حل للقضية الكردية، لكن تهرّب الحكومة العراقية تسبّب في تعثّر المفاوضات، على نحو ما أوضحه عبدالناصر في رسالة إلى نائبه عبدالحكيم عامر.

 

مخاوف ناصر من مسألة الحكم الذاتي كانت معطوفة على خشيته من امتداد المطالب إلى "القطر السوري"، لكنه سرعان ما بدا مؤيداً للحكم الذاتي طبقاً لما نقله عبد الجليل صالح موسى في مؤلفه المهم (جمال عبد الناصر والقضية الكردية في العراق 1952 – 1970) عن الصحفيّ إيريك رولو حيث أكد ناصر أنه "لا أحد يستطيع إنكار وجود الشعب الكردي، بالنتيجة فهو لديه حقوق وإحدى هذه الحقوق هو المطالبة بالحكم الذاتي"

 

صورة أخيرة

 

جذّرت مفاهيم "التحرّر الوطني" ومناهضة الاستعمار العلاقة القصيرة بين العالم القومي الكردي المتشكّل وبين "العروبة" التي غدت مع ناصر أكثر قوّة وحضوراً، لا سيّما في ظل تنامي أدوار تركيا وإيران والاتجاهات العربيّة الموالية للاستعمار، وفيما اعتبر ناصر حماية الأمن القومي العربي تمرّ بحضور الأكراد، سعت مصر إلى تفهّم التطلّعات القومية الكردية والتي إن تحقق جزء منها فإنها قد تشكّل قوساً بشرياً يمتد في سوريا والعراق من مشارف الاسكندرون وصولاً إلى حدود فارس، الأمر الذي قد يحصّن البلاد العربية من الرغبات التوسعية التركية والإيرانية المشفوعة بدعم غربيّ.

 

لم يتمتع بعثيو سوريا والعراق بالوعي المطابق للواقع الذي تحلّى به ناصر في خصوص القضية الكردية، تحذيرات ناصر للكرد من التعاطي مع شاه إيران الذي كان يسعى إلى استغلال الورقة الكردية، كانت دقيقة، ومخاوف ناصر من قضم تركيا لشمال سوريا كانت محقّة أيضاً، ولعل غياب ناصر أفسح المجال واسعاً لمغامرات البعثيين العدمية، واللذين تسببا في تخريب العلاقة الكردية العربية التي كان من الممكن أن تكون في وضع مختلف لو أنّها أكملت مشوار ناصر "التحرريّ"، بل إن البَعثين تسببا فوق الدمار العميم لدولتيهما، في تحقق أكبر كوابيس ناصر التي خشيها، حيث إيران تتحكم في تضاعيف الأمور في بغداد ومن ذلك أيضاً أنها باتت تتحكّم في مصائر كرد العراق، فيما جسّدت تركيا كابوسه الآخر وباتت تستأثر بمناطق شاسعة من الشمال السوري، وعليه يبدو أن فكرة الأمن القوميّ العربي تمرّ بالقضية الكردية، وبالتفاهم بين شعبين آن لهما تجاوز عقدة البعث، والبحث عن المشتركات بعيداً عمّا يريده أخصام العرب والكرد لهما في ذات الوقت.

 

قد يستصحب مديح عبد الناصر خسارة واحدنا للنقاش الذي قد يأتي على قصص تمكين الجيش من الحياة المدنية والحكم، والحروب الخاسرة التي خاضها الرجل، وسواها من مسائل هي بنت زمانها، لكن في الصورة أيضاً، ثمة طيف آخر من الألوان، حيث مسائل التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية والبحث عن عروبة لا تستكين للغرب ولا للدول الإقليمية، ويبقى أن لنظرة كرد العراق وناصر لحل مشكلات الأقليات بالوسائل السلمية مثال على إمكانية جلب جملتين من تراث العلاقة الكردية العربية ووضعهما على طاولة التفاهم بين هذين الشعبين، وحسب واحدنا أن يرتضي ما ارتضاه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في مطلع قصيدة كتبها عن جمال عبد الناصر: من يمدحه يطلع خاسر.