القاعدة هي أن توقّع الشركات العاملة في مجالات النفط العقود مع الحكومات، فيما الاستثناء هو أن توقع شركة "ديلتا كريسنت إنيرجي" العقد مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، هذا الاستثناء (القاعدة الأمريكية)، يؤسّس لـ"اعتراف سياسيّ" لاحق لطالما سعت إليه الإدارة في أعقاب هزيمة تنظيم داعش الماحقة والمكلفة، وإن كان تصوّر الاعتراف السياسيّ هنا ملتبساً، فإن تقاطر بعض الشركات العالميّة سعياً إلى إبرام العقود في مرحلة لاحقة كفيل بإزالة الالتباس، كما يعني "الاعتراف" أن الطرف الأول الموقع على العقود سيكون من الآن فصاعداً هو الإدارة التي ستحمل أختامها سمة أختام الحكومات، فضلاً عن أن حركة "الانسحاب" الأمريكي المفاجئ في كل حين ومن كل مكان، كما حصل إبان احتلال سرى كانيه/رأس العين وتل أبيض، تصبح أبعد احتمالاً بالنظر إلى وجوب حماية واشنطن مصالح الشركات الأمريكية العاملة على الأرض.
في المقام الأوّل يُطبِق الاتفاق النفطي الخناق على النظام السوريّ، ذلك أن الإدارة كانت في سياق عملية استبدال النفط الخام بالمشتقّات النفطية، الأمر الذي إن استمرّ كان من شأنه جعل مفاعيل "قانون قيصر" هشّة على المستوى الداخلي، في حين يمثّل توقيع العقد إيفاءً لوعدٍ قطعه الرئيس الأمريكي في خصوص إرسال شركات نفطية إلى شمال شرق سوريا، ما يفسّر الموافقة على الاستثناء التي تحصّلت عليه شركة "ديلتا" من وزارتي الخارجية والخزانة الأمريكيتين، وعليه تنتقل واشنطن من دور "حامي" النفط، إلى دور "المستثمر".
وكال بيان صادر من وزارة الخارجية السورية الشتائم واستخدم أقذع الألفاظ بحق الإدارة الذاتية وواشنطن على ضوء توقيعهما العقد، ولم تبدُ دمشق رافضة أو منددة بقدر ما تبدّت عاجزة، فاحتكمت إلى لغة الشتائم والسباب، التي يمكن تفسيرها بأنها باتت منهج عمل وزارة الخارجية، وليس بعيداً من بيان خارجية النظام جاء بيان الخارجية التركية الذي وجد في الاتفاق/العقد بأنه "غير مقبول" ولعل ذكر الحجج والذرائع التركية المساقة في رفضها لا تخرج هي أيضاً عن كونها دوغمائية، وكأنها مكتوبة سلفاً بالضد من كل ما يتحرّك على الأرض في شمال شرقي سوريا.
لا يكشف واحدنا الغطاء عن التحالف غير المعلن بين أنقرة ودمشق فيما خصّ الملفّ الكردي السوري، أو لنقل بأنه اتفاق "نوايا" بين الجارتين العدوتين، حيث تكون كل المسائل خلافية وسبباً في الصراع، ما عدا تحرّكات كرد سوريا، بيد أن النظام السوري لا يزال يرى في ورقة كرد سوريا "المادة الخام" التي يمكن أن تقرّبه من تركيا في وقت لاحق، وأن منطقة شمال شرق سوريا هي "الفزّاعة" التي يريد النظام تصويرها للجوار، حيث أنها منطقة تسعى إلى "الانفصال"، وفي مثل ذلك تصبح عقود "تحديث" بعض حقول النفط "سرقة لنفطنا"، وشراء محاصيل القمح "سرقة لقوت شعبنا".
وبالعودة إلى متن بيان وزارة الخارجية السورية الذي يصف العقد بأنه "صفقة بين لصوص تسرق ولصوص تشتري"، ومن وحي هذه العبارة يمكن استشفاف السؤال التالي: ماذا لو سعت الإدارة إلى منح شركة روسيّة عقداً موازياً كالذي وقّعته مع الشركة الأمريكية، فهل ستعاود وصف طرفي العقد، لا سيّما الطرف الروسيّ، باللصوص؟ علماً بأن "اللصوص" الآخرين وهم شركة "ديلتا كريسنت إنيرجي" سبق لها أن أبرمت عقوداً من قبل عام 2011 مع الحكومة السورية!
في الجانب الواضح للاتفاق، سيعزّز تواجد شركة أمريكية من واقع الأمن في المنطقة وسيخفّض من احتمالات الهجمات التركيّة، حيث أن الاتفاق يقضي بأن تكون مدّة العقد /25/ عاماً قابلة للتجديد، كما سيؤدي إلى إصلاح جزء من البنية التحتية لقطاع النفط الذي يعاني من عطب مشفوع على مرحلة الإهمال المديدة، ومرحلة سوء الاستخدام التي قامت بها داعش في بعض الآبار النفطية، كما ستؤمن محطتا تكرير النفط حاجة مناطق شمال شرق سوريا الجزئية من الاحتياجات النفطية بما يقطع الطريق على "أثرياء الحرب"، وهم هنا وسطاء النظام المتحصّلين على النفط الخام في مقابل تأمين المشتقّات النفطية المكرّرة عبر مصفاتي حمص وبانياس، ما يعني توفير ريع مالي متقدّم عمّا كان للإدارة الذاتية، فضلاً عن إصلاح البنية النفطية التحتية التي ستساهم في حماية البيئة من التلوّث التي تتسبّب به المصافي البدائية "الحرّاقات" وسوء الاستخدام الذي يؤدي إلى تسرّب النفط نحو المناطق الريفيّة الزراعية.
فيما الجانب المعقّد في الاتفاق، والذي دفع وسيدفع النظام إلى اعتماد لغة "هستيرية"، هو سعي واشنطن إلى تطبيق "قانون قيصر" بشكلٍ أكثر حدّة وتجاوز ما يمكن أن يؤمن نسغ الحياة لدمشق الرافضة للحلول السياسيّة، وقد يمنح الاتفاق ورقة ضغط لصالح قوات سوريا الديمقراطية التي تسعى إلى إيجاد صيغة اتفاق عادل مع دمشق تحافظ من خلاله على ما تحقّق من شكل لا مركزيّ، رغم الشكوك في قبول دمشق لأيّ اتفاق سياسيّ وإداريّ وفق ما تشير إليه سياستها الرسمية المتصلّبة.
وتبقى الأسئلة المهمّة في سياق تمكّن الإدارة الذاتية من معظم مكامن الثروة النفطية (قرابة 90% من النفط السوريّ) حول كيف سترعى الإدارة مصالح المواطنين السوريين في المناطق التي لا تقع تحت سيطرتها، في ظل الاحتياجات المتوقّعة مع اقتراب فصل الشتاء، وكيف ستدير واشنطن الجانب الإنساني بمنأى عن "قانون قيصر" في حال لم يكترث النظام لورقة الضغط هذه، والحديث هنا عن الجانب الإنساني في عملية إدارة الثروة الوطنيّة؟ ثم هل سيصبح التقدّم في استثمار النفط ورقة الإدارة في تطبيع العلاقات مع الجوار، لا سيّما تركيا، التي تغلّب لغة الحرب على لغة المصالح وتبادل المنافع والتنمية في المنطقة؟ ولعل أسئلة أخرى قد تتوالد في المستقبل حال توافد شركات عالمية أخرى إلى شمال شرقي سوريا.
في المحصّلة، بات في يد الإدارة الذاتية ورقة متقدّمة لا يبدو أن نزعها من يدها بالأمر اليسير.