ليبيا والحل الثالث

 

بلغت المستجدات الميدانية في ليبيا حالة من الغليان والتجييش إلى درجة قد يصعب بعدها العودة إلى الوراء، على الأقل إلى ماقبل قصف قاعدة الوطيّة التابعة لحكومة الوفاق برئاسة فايز السرّاج، من طرف طائرات قيل إنها مجهولة الهوية، حيث تم تدمير منظومة الصواريخ التي زرعتها حكومة أنقرة في القاعدة إلى جانب أسلحة استراتيجية متطورة استقدمها الجيش التركي إلى ليبيا تحضيراً لمعركة كبرى قد تقع في أية لحظة.

 

من المرجّح أن قصف قاعدة الوطيّة، وبهذه الطريقة المباغتة والقوية، قد لا ينفصل عن تصريح الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي وتوصيفه سرت والجفرة خطاً أحمراً لمصر في العمق الليبي؛ وكذا قد يرتبط من قريب أو من بعيد بالتحركات الفرنسية ضمن حلف الناتو بعد أن قامت القوات التركية بالتحرّش بإحدى سفنها الحربية التي تضطلع بمهمة بتكليف من الحلف الأطلسي للتفتيش على الالتزام بحظر الأسلحة في منطقة المتوسط، وهي تعجّ الآن بالعتاد البحري الثقيل لدول كبرى لها مصالح متضاربة في ليبيا المنقسمة على نفسها سياسياً وشعبياً.

 

تحاول فرنسا بالتوافق مع ألمانيا وإيطاليا، وبدعم من الاتحاد الأوروبي، أن تبعث برسائل للأطراف المنخرطة في الشأن الليبي سواء كانت إقليمية عربية أم أجنبية تقبع ماوراء البحار، عن طريق البيانات التي تصدرها أو التحركات السياسية والدبلوماسية التي يقوم بها المعنيون في تلك الدول. تهدف تلك الرسائل إلى التوصل لوقف إطلاق نار فوري من جميع الأطراف المنخرطة في العمليات العسكرية، ما من شأنه أن يعيد الجميع إلى طاولة المفاوضات حيث لاغالب ولا مغلوب، مع احترام حظر السلاح واجتلابه إلى البلاد.

 

سيفرض هذا الأمر وضع حد حاسم للتدخلات المتضاربة في البلاد سواء كانت من ميليشيات، أو مرتزقة، أو جيوش دول نظامية. وفي حال توفرت هذه الظروف سيبدأ وقف إطلاق النار بالتحوّل من شرط مرتبط بإطار زمني محدّد إلى حال دائم ومستقرّ، ما سيشجع الأطراف للعودة إلى خارطة الطريق التي وضعها مؤتمر برلين وهو ما تعتبره دول الاتحاد الأوروربي الإطار السياسي الأوحد القادر على الحياة والتقدّم. وقد أتت في وقت لاحق المبادرة المصرية للسلام لتؤكد على ثوابت مؤتمر برلين وترسم منهجاً قد يكون مقبولاً للأطراف كافة من أجل العودة إلى المخارج السياسية للأزمة، وهي مبادرة عربية أخيرة قبل أن يعلو صوت السلاح الذي سيصعب إخماده.

 

هناك تخوّف دولي أوسع من القارة الأوروبية، تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب العديد من الدول العربية ممثلة بالجامعة العربية، ويتمثّل في إمكانية أن تلجأ روسيا الداعمة لقوات الجيش الوطني لخليفة حفتر في بنغازي من جهة، وتركيا التي تدعم حكومة الوفاق في طرابلس من جهة أخرى، وفي حال تعطّل أي إمكانية لحل سياسي أو حسم عسكري، إلى تقسيم البلاد بين شرق وغرب. وفي ضوء هذه الهواجس المقلقة أطلق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مبادرة أُطلق عليها اسم "الحل الثالث"، تقوم على العودة إلى نفوذ وصلاحيات القبائل الليبية التي وحدها تمتلك الحق في إدارة البلاد في ظل الظروف المعقدة والغامضة المآلات التي تمرّ بها البلاد.

 

وقد يكون الإجتماع الذي عُقد مؤخراً في القاهرة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، مع زعماء ووجوه القبائل والعشائر الليبية، وتسلّم منهم تفويضاً في القتال باسمهم إذا ما تجاوزت قوات الوفاق الخط الأحمر الذي رسمته القاهرة، هو أحد أصداء مبادرة الجزائر من أجل العودة إلى حالة سياسية مدنية تكون مقبولة من الشعب الليبي بغالبيته، وعلى اختلاف مخرجاتها؛ ففي حين دعا الرئيس تبون إلى ضرورة اللجوء إلى صندوق الاقتراع لاختيار قيادة جديدة لليبيا يكون للقبائل التي نأت بنفسها عن الاقتتال دوراً بارزاً فيها، فإن القاهرة تجد في تفويض القبائل لجيشها القتال يداً بيد حين يلزم الأمر، وجهاً آخر لصناعة السلام عن طريق التلويح بالقوة، وهو ما يثير ارتياح الرئيس ماكرون كون هذا التهديد المباشر الذي أتى بحضور وجوه القبائل في القاهرة يشكّل رادعاً قوياً لحكومة الوفاق في حال فكّرت بالتقدّم نحو سرت والجفرة للسيطرة على هذا المحور الأكثر حيوية وسخونة في ليبيا.

 

فهل ستكون مبادرة "الحل الثالث" في العودة إلى الكتلة الشعبية للقبائل الليبية التي آثرت حتى الآن الابتعاد عن الحلول العسكرية للأزمة المستدامة في البلاد، إلا في حال دعت حاجة الأمن القومي للبلدين الشقيقين الجارين ليبيا ومصر إلى ذلك فكان أمراً مقضياً؟ أتـساءل!.