باكو – يريفان .. الصراع المتجدد والكرد ضحاياه

خورشيد دلي

العداء بين أرمينيا وأذربيجان قديم، وقد ترسخ هذا العداء مع رسم الحدود الإدارية بين الدولتين من قبل الاتحاد السوفييتي عقب الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية، ويدور جوهر هذا الصراع على إقليم ناغورنو قره باغ أو إريستاخ بالأرمنية، حيث وفق الحدود الإدارية أصبح الإقليم تابعا لأذربيجان جغرافياً فيما غالبية سكانه من الأرمن، وبسبب هذا الوضع نشبت الحرب الأولى بين الجانبين عام 1920 التي انتهت بتدخل الجيش السوفييتي، لكن هذا التدخل لم يمنع أرمينيا من المطالبة بإجراء استفتاء لتحديد مصير الإقليم، إلى أن تحقق ذلك مع انهيار الاتحاد السوفييتي حيث طالب الإقليم بالانضمام إلى أرمينيا التي سارعت إلى الموافقة على هذا الطلب عام 1988، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب الثانية بين باكو – ويريفان وانتهت بسيطرة أرمينيا على الإقليم إضافة إلى سبعة مناطق أذرية متاخمة للإقليم، ولم تتوقف الحرب بينهما إلا في عام 1994 بوساطة من  مجموعة "مينسك" التي تضم روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، لكن انتهاء الحرب بين باكو ويريفان لم يضع نهاية للصراع بينهما، إذ ظلت أذربيجان تؤكد عزمها المضي في استعادة قره باغ فيما قابلت أرمينيا كل تحرك عسكري من قبل أذربيجان بالنار، وهو ما أدى إلى تجدد القتال بين الطرفين مراراً، وكان أخره قبل أسبوع عندما أطلقت قوات أذرية النار على موقع أرميني في تافوش في المنطقة الشمالية الشرقية الحدودية بينهما، مما أدى لتجدد القتال بين الطرفين، موقعاً عشرات القتلى والجرحى، وسط مخاوف من تحوله إلى حرب شاملة بين الجانبين ولاسيما في ظل الدعوات الأذرية المطالبة بنقل القتال إلى إقليم قره باغ لإعادة السيطرة عليه.

 

مع كل تجدد للصراع بين الجانبين تتجه الأنظار إلى تركيا التي تسارع إلى إعلان تقديم الدعم لأذربيجان في إطار العداء التاريخي لأرمينيا، ونظرتها  إلى أذربيجان بوصفها الأخ الأصغر حيث معظم سكان أذربيجان هم من أصول تركية رغم أنهم شيعة من حيث المذهب، حيث كان لافتاً مع تجدد القتال بين الجانبين مسارعة أردوغان إلى إعلان دعم أذربيجان وتهديد أرمينيا، وهو ما يثير اصطفافات إقليمية ولاسيما من قبل روسيا وإيران، فروسيا تنظر إلى أرمينيا كمنطقة نفوذ تاريخي وجغرافي وحيوي حيث لها قوات وقواعد عسكرية على أراضيها، وبين الدولتين العديد من الاتفاقيات بما في ذلك اتفاقية دفاع مشترك، والاصطفاف بين الجانبين الروسي – التركي يتجاوز أرمينيا إلى العديد من الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي ولاسيما أوكرانيا حيث أعلنت تركيا مراراً رفضها ضم روسيا لجمهورية القرم في شرقي أوكرانيا على اعتبار أن سكانها هم تتر يرجعون إلى أصول تركية، في المقابل فإن إيران تنظر بعين الحذر إلى الدور التركي في أذربيجان ولاسيما في ظل تبني الأخيرة لمطالب الأذريين في مناطق شمال غرب إيران والتي تعرف بأذربيجان الجنوبية، فيما يبقى العامل المذهبي الشيعي عاملاً مهماً في استراتيجية إيران تجاه أذربيجان، وعليه، فإن أي تجدد للحرب بين أذربيجان وأرمينيا يعني أمن هذه الدول الثلاث واستراتيجياتها ولاسيما في ظل أهمية عامل الطاقة (الغاز والنفط) حيث خطوط الطاقة ومشاريعها بين أذربيجان وهذه الدول لها أهمية حيوية، ولعل عامل المصالح يدفع بالدول الإقليمية الكبرى إلى الدعوة لضبط النفس وعدم الانجرار إلى حرب جديدة دموية، خاصة وأن الحرب السابقة بين أذربيجان وأرمينيا أودت بحياة قرابة ثلاثين ألف شخص ونزوح قرابة مليون من الطرفين من مناطقهم.

 

الكرد ضحايا الصراع    

                                               

يتجاهل العالم  بما في ذلك أذربيجان وأرمينيا الحديث عن قضية جوهرية في الصراع الأذري – الأرميني، وهي قضية أن الحرب تدور بين الجانبين في مناطق كان غالبية سكانها من الكرد، وكانت يوماً من الأيام المناطق التي شكلت فيها جمهورية كردستان السوفيتية والتي كانت تعرف بـ(كردستان الحمراء)، ففي عام 1923 قررت موسكو إقامة جمهورية كردستان في المناطق الواقعة بين أذربيجان وأرمينيا، وكانت تتألف من خمس مقاطعات رئيسية، هي: (زانكلان وكالباجار وكربائلين ونخجوان ولاتشين)، التي كانت عاصمة للجمهورية الوليدة برئاسة حسين لاجييف، لكن الجمهورية التي شهدت نهضة ثقافية واجتماعية وزراعية وعلمية لم تدم طويلاً، إذ أعلن ستالين في عام 1929 عن حلها، وذلك لأسباب كثيرة، منها الرفض المطلق لها من قبل أذربيجان، والمصالح التي تشكلت بين ستالين وأتاتورك على خلفية الموقف المشترك من الغرب وقتها، والمخاوف من تداعيات التواصل الذي نشأ بين هذه الجمهورية والثورات الكردية التي كانت مندلعة في تركيا وإيران، حيث خشية هذه الدول مجتمعة من ولادة دولة كردية في المنطقة، لكن الأخطر من كل هذا، هو لجوء ستالين بعد ذلك إلى تهجير الكرد من مناطقهم التاريخية إلى مناطق صحراوية ولاسيما كازاخستان، ومن ثم تسجيل كرد الاتحاد السوفييتي على أنهم أذربيجانيون أو كازاخستانيون … باستثناء كرد أرمينيا الذين احتفظوا بحقوقهم الثقافية حتى اليوم، وفي كل هذا حدثت عملية فرز مذهبي للكرد، إذ أن معظم كرد أرمينيا هم من أصول إيزيدية حيث بقي هؤلاء متمسكون بهويتهم الكردية إلى اليوم، فيما الكرد في أذربيجان تم تسجيلهم على أنهم أذريين وعلى أنهم مسلمين سنة دون أي بعد قومي كردي، وقد أدى كل ذلك إلى صهر الكرد في القوميات الأخرى والقضاء على كينونتهم القومية الكردية، ومع أنه في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي جرت يقظة قومية كردية ومحاولات عديدة لإعادة بناء إقليم كردي في المناطق التاريخية للكرد في مناطق الصراع الأذري – الأرميني، حيث عقد مؤتمر في موسكو لهذه الغاية في تموز عام 1990، وانتهت هذه الجهود بإعلان جمهورية لاجين عام 1992 برئاسة الضابط السابق مصطفاييف (مصطفى) وكيل (توفي قبل نحو سنة) إلا أن الجمهورية الوليدة لم تستطع الاستمرار بسبب عدم وجود الدعم الشعبي والاجتماعي لها بعد التداعيات التي حصلت للمناطق الكردية والتحولات التي جرت على بنيتها الاجتماعية بفعل عوامل الدين والثقافة والأمن والإجراءات التي اتخذتها الحكومات الأذرية المتتالية، وهو ما يكشف حقيقة تأثير الصراع الأرمني – الأذري على الكرد في إقليم قره باغ فضلاً عن منطقة ناخيشفان، إذ أدى الصراع التاريخي بينهما إلى ضرب مقومات الوجود الكردي في هذه المناطق. 

 

في وقائع الصراع الأرميني – الأذري على إقليم قره باغ، ظلت أرمينيا تحاول استمالة الكرد وتحفظ لهم حقوقهم، فيما مارست أذربيجان سياسة إمحاء الهوية والإقصاء السياسي، فكان الكرد في هذه المناطق هم بحق ضحايا هذا الصراع ولاسيما بعد أن غدر بهم ستالين مبكراً.

 

في الختام، يمكن القول إنه مع تجدد القتال بين أذربيجان وأرمينيا، فإن احتمال تحول هذا القتال إلى حرب جديدة مفتوحة وارد جداً، ولاسيما في ظل الدعم التركي لأذربيجان ضد أرمينيا من جهة، ومن جهة ثانية تطوير الأخيرة قدراتها العسكرية بشكل كبير في السنوات الأخيرة بعد أن اشترت أسلحة متطورة من روسيا، إذ أن الروح القومية في هذا الصراع قوية وتأخذ طابع صراع الوجود على الأرض والهوية التاريخية، كل ذلك في ظل إرث عثماني – تركي عنوانه الإبادة الأرمينية التي تخيم بظلالها على الصراع وعلى الموقف التركي العدائي إزاء كل ما يخص أرمينيا.