من أتاتورك إلى أردوغان … وَهمُ النموذج التركي

 

انطلقت النخب التركية الحاكمة منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، في رؤيتها، وخياراتها السياسية، ونظرتها للجوار الجغرافي، على أنها تقدم نموذجاً طورته خصيصاً ليناسب التطور السياسي والاقتصادي والعقائدي والاجتماعي والثقافي في تركيا والمنطقة، إذ روجت الأوساط التركية طوال العقود الماضية وتحديداً قبل مرحلة تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم على أن أتاتورك نجح في انتهاج سياسة عصرية قامت على العلمانية والعصرنة، كما أنه نجح في التأسيس لديمقراطية فريدة في المنطقة، ولنموذج يمكن الاقتداء به سبيلاً إلى الإصلاح والعصرنة والديمقراطية، قبل أن يكتشف الجميع بما في ذلك الأتراك أنفسهم أن النموذج الذي شيده أتاتورك تحول إلى سلطة عسكرية استبدادية تقودها المؤسسة العسكرية، وأن العلمانية – الأتاتوركية لم تكن سوى شعاراً لتوطيد هذه السلطة بهيئات مدنية، إذ أن جوهر سياسة أتاتورك قامت على إيديدلوجية قومية تمجد العنصر التركي، وتنكر الهويات القومية الأخرى في البلاد ولاسيما الكرد، كما أن هذه السلطة قامت على رؤية مشوهة للعلمانية كمفهوم، وبدت أقرب إلى سلطة توليتارية استبدادية مرتبطة بالغرب وظيفياً، وأقرب إلى الستالينية على مستوى الفرد وحكمه وتقديسه، وهكذا تحول أتاتورك إلى ستالين تركي، وايديولوجيته إلى (علمانية) بمفاهيم قسرية باتت في الممارسة اليومية نموذجاً لأصولية سياسية لا تقبل حتى النقد، وهكذا سقطت الأتاتوركية من الداخل بفعل تكلسها وتحولها إلى قوالب جامدة، عاجزة عن تأطير الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، كما أنها عاجزة عن تقديم أجوبة عن هوية الدولة ومكوناتها المختلقة حضارياً وقومياً واجتماعياً، ولعل المستفيد الأكبر من تكلس الأتاتوركية وتحولها إلى قوالب جامدة، كان تيار الإسلام السياسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية، خاصة وأن الأخير عرف كيف يستغل إقصاء أتاتورك للهوية الإسلامية في تركيا، حتى اندفعت الأخيرة بقوة إلى سدة المشهد السياسي التركي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة وطرحه نموذجاً جديداً للحكم، سوق له في تركيا والمنطقة وحتى الغرب على أنه يمثل الاعتدال، بوصفه يحقق المعادلة الصعبة، المتمثلة في تحقيق التوفيق بين الديمقراطية والإسلام والعلمانية والاقتصاد.

 

وعلى الرغم من اختلاف نموذج أتاتورك عن النموذج الذي سوقه حزب العدالة والتنمية والذي يمكن وصفه بالأردوغانية أو العثمانية الجديدة، فإن ثمة نظرة مشتركة تجمع النموذجين تجاه المنطقة، فمثلما قالت النخب التركية في السابق أن النموذج الأتاتوركي يصلح لتطور المنطقة والاقتداء به، يسوق دعاة نموذج الأردوغانية لنفس النظرة، وهي في الحقيقة نظرة ترجع في جذورها إلى نزعة الاستعلاء التركية، على أساس أن الأتراك كانوا أصحاب الأمجاد التاريخية التي انهارت بسبب تعامل العرب مع القوى الاستعمارية لتقطيع أوصال الامبراطورية العثمانية، في حين يتناسى هؤلاء أن الاحتلال العثماني – التركي الذي دام أربعة قرون كان السبب الرئيسي لتخلف المنطقة حضارياً، وأن ظهور الايديولوجيات القومية في المنطقة كان رداً على النزعة الطورانية التركية التي هدفت إلى تتريك الشعوب غير التركية تحت شعارات دينية بعد أن أرهقت هذه الشعوب بالضرائب والفرمانات التي كانت تهدف إلى التطويع الكامل، ومعروفة تلك العبارة الشهيرة التي تقول (حاضر أفندم) تعبيراً عن الولاء التام للسلاطين، كما جرى لاحقاً مع أتاتورك واليوم مع أردوغان.

 

مثلما فعلت النخب التركية السابقة الموصوفة بالأتاتوركية، تتصرف النخب الحالية في عهد حكم حزب العدالة والتنمية، إذ تنطلق هذه النخب من رؤية ايديولوجية تقوم على أن تركيا قائدة للعالم الإسلامي، وانطلاقاً من هذه الرؤية تتدخل تركيا في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، وتقوم بالاعتداء هنا وهناك كما في سوريا والعراق وكردستان وليبيا واليونان… وفي سبيل تحقيق أجنداتها، نسجت حكومة العدالة والتنمية علاقات وثيقة مع جماعات الإخوان المسلمين في دول المنطقة، وسارعت إلى دعم جماعات الإسلام المتشددة بما في ذلك الإرهابية مثل (داعش والنصرة والجماعة الإسلامية) في ليبيا … واستخدام هذه الجماعات كأدوات للاحتلال تطلعاً إلى الدور والنفوذ والهيمنة، على أمل أن تصبح تركيا جزءاً من المعادلة السياسية الداخلية لدول المنطقة، وتحويل هذه الدول إلى دول تابعة لتركيا التي يحلم بها أردوغان في السنوات المقبلة، حيث أحلام أردوغان الجامحة، وعلى رأسها إعادة أمجاد أجداده من سلاطين السلاجقة والعثمانيين، وإقامة ما يسمى بالوطن الأرزق، أي السيطرة على المتوسط والتحكم بموارد الطاقة من نفط وغاز.

 

وهكذا حول أردوغان في تطلعه لتحقيق أحلامه النموذج الذي دعا العالمين العربي والإسلامي إلى الاقتداء به إلى نموذج للتطرف والإرهاب والاستعمار، فعملياته العسكرية التي حملت طابع الغزو في شمال سوريا وشرقها وكذلك في كردستان العراق واليوم في ليبيا جعل من النموذج الأردوغاني رمزاً للعدوان، وخطراً يهدد أمن الدول الأوروبية والعالم، وهو ما أدى إلى حالة استنفار في العالم لمواجهة الخطر التركي،  وفي كل ذلك يجنح أردوغان بفعل عوامل ايديولوجية وأخرى سياسية لها علاقة بالتنافس الأمريكي الروسي على توظيف الدور التركي في المناطق المتفجرة .. يجنح نحو المزيد من العسكرة والاحتلال، لينتهي النموذج الذي بشر به حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم إلى المزيد من التطرف والاستبداد في الداخل، والتوتر والصدام مع الخارج، على حساب حل المشكلات والقضايا المزمنة في تركيا وعلى رأسها القضية الكردية، وإقامة علاقات إيجابية مع الجوار الجغرافي والعالم، علاقات تقوم على المصالح المتبادلة واحترام سيادة الدول والقرارات الدولية التي تقر بحقوق الشعوب، إذ أن كل ما سبق لا يمكن تحقيقه من دون أن تدرك النخب التركية أن أحلامها وصلت إلى حد الاستعمار، وأنها لم تعد تنطلي على الشعوب وتوقها إلى الحرية، أنه وهم النموذج التركي المحمول بروح التفوق والعنصرية.