في القامشلي.. عائلات أطفال مصابين بـ"التوحد" تواجه تنمراً من المحيط وقلة مراكز التأهيل

القامشلي  _ زوزان حسن _ نورث برس

 

خمس سنوات ثقيلة مرت على ميديا جمو (26 عاماً)، قبل أن ترى طفلها البكر شيار ذي الأعوام الستة وهو يحدق في عينيها ويردد للمرة الأولى كلمة "ماما". كلمة لطالما تمنت سماعها بعد محاولات مستمرة من أجل معرفة تشخيص دقيق لحالته التي "عجز الأطباء" عن فهمها لأكثر من أربع سنوات.

 

"ابنك مصاب بالتوحد المتوسط"، هكذا شخص الأطباء في دمشق حالته أخيراً. وتقول "جمو لـ"نورث برس": "أفكار كثيرة كانت تدور في رأسي المُرهق على مدار سنوات قبل سماعي لتلك الجملة، لكنني بالرغم من ذلك لم أشعر بالخوف أو اليأس للحظة واحدة".

 

كان ذلك بعد رحلة شاقة تنقلت فيها ميديا بين عيادات الأطباء في لبنان حيث كانت تقيم العائلة، لتعود لاحقاً إلى سوريا، لكن على الرغم من تمكنها أخيراً من تشخيص حالته، إلا أن ذلك لم يكن سوى بدايةً لفصل آخر من المعاناة ومحاولات جديدة للبحث عن علاج وسط تحديات كثيرة تبدأ من قلة المراكز المتخصصة بالعناية بهؤلاء الأطفال، ولا تنتهي بمجتمع محيط لا يرى في مثل حالة ابنها سوى نوعاً من "الاختلال العقلي".

 

ماذا يعني "طيف التوحد"؟

 

تُعرّف منظمة الصحة العالمية "التوحد(autism)" على أنه اضطراب في النمو اللغوي والسلوكي والانفعالي والتعبيري، وهو تعريف مختصر يعبر بكلمات بسيطة عن المعنى المقصود، إلا أنه لا يتطرق إلى أبسط ما تواجهه أسرة لديها طفل بهذه الحالة، من صعوبات وعراقيل. ولا سيما في المجتمعات التي تعاني الحروب كحال سوريا.

 

وتشير تقديرات المنظمة إلى انتشار اضطرابات طيف التوحد بشكل كبير، ذلك أن من بين كل 160 طفلاً في العالم، طفل واحد يصاب بإحدى اضطرابات التوحد، لكن رغم تزايد أعداد المصابين به إلا أنه لايزال مجهولاً لنسبة كبيرة من الناس حول العالم من حيث كيفية التعامل مع المصابين به، إذ يعتبر التوحد من المصطلحات الحديثة نسبياً ويرجع استخدامه إلى أخصائي الطب النفسي للأطفال، الأمريكي ليو كانر، الذي فرق بينه وبين الفصام في العام 1943.

 

"تنمر مجتمعي"

 

ويتعرض الأطفال المصابون بالتوحد وذووهم للتنمر بسبب سلوكياتهم الخارجة عن المألوف، خاصة إذا ما كانوا من مجتمعات تنتشر فيها ثقافة الصور النمطية، ذلك أن الطفل المصاب غالباً ما يحدث الضوضاء والصراخ المتكرر، فيما يميل بعضهم إلى فرط نشاط في الحركة أو عدم الاستجابة لنداءات والديهم، لذا يرى الأخصائيون أنه من السهولة نعتهم بـ"الجنون".

 

وخلال السنوات الماضية، سمعت والدة شيار مراراً كلمات وجملاً "مسيئة" من المحيط من قبيل "طفلك لن يذهب إلى المدرسة.. هو مختل عقلياً.. لن يتزوج ويصبح لديه أصدقاء.. أنت لا تجيدين تربيته"، بالإضافة إلى ذلك رفضت المدارس ودور الحضانة استقبال طفلها وسط قلة المراكز المتخصصة لتأهيل وتنمية مصابي طيف التوحد وذوي الاحتياجات الخاصة في شمال شرقي سوريا كما في عموم البلاد.

 

مركز وحيد

 

في مركز "بيسان" لأطفال التوحد واضطرابات النطق والاستشارات النفسية بمدينة القامشلي، يعمل ماهر الجلعو إلى جانب فريق من المتطوعين والمختصين للتعامل مع عشرات الحالات منذ تأسيس المركز عام 2018، والذي يعتبر الوحيد في عموم مناطق شمال شرقي سوريا، لكنه افتتح مؤخراً فرعاً له في بلدة عامودا شرق القامشلي.

 

ويقول "جلعو" مدير مركز "بيسان"، لـ"نورث برس"، إن التنمر على هؤلاء الأطفال وذويهم يدفع الكثير من العائلات إلى الإنكار وتحاشي الحديث عن حالة أطفالهم.

 

ويضيف أن الكثير من العائلات، منذ بداية افتتاح المركز وحتى الآن، لا يزالون يرفضون إرسال أطفالهم بواسطة الحافلة المخصصة لنقلهم إلى المركز، وذلك خشية تعرضهم للإساءات اللفظية أو الجسدية من الأقارب أو الجيران فيما لو شاع أن طفلهم يرتاد مركزنا، فيما تلجأ معظم العائلات إلى التكتم وتفضيل معالجتهم خفية، بينما تحاول عائلات أخرى تغيير أسماء أطفالها لدى تسجيلهم.

 

وتقول حسناء أحمد (35 عاماً)، وهي والدة لإحدى الأطفال المصابين بطيف التوحد: "تمنيت لو كان في استطاعتي بناء مدينة نعيش فيها مع أطفالنا لوحدهم، لربما سيكون حينها من الممكن السير في شوارعها بحرية دون سماع أو رؤية الغمز واللمز من حولنا. لربما في تلك المدينة وحدها لن يكون هناك من ينظر لأطفالنا تلك النظرات البائسة المليئة بالشفقة والاستغراب".

 

لكن ميديا جمو، هي واحدة من الأمهات اللواتي رفضن إخفاء إصابة طفلها أو الخجل من الحديث عن حالته، بل قررت دعمه حتى النهاية، ومنذ الأيام الأولى لتشخيص حالة شيار، أصبحت تقرأ عن التوحد وتواظب على تسجيل خطوات ابنها ومراحل نموه.

 

وتقول إنها كانت تفتقد التواصل البصري مع شيار، لذا كانت تحافظ على تواصلها معه بـ"عاطفتها وقلبها"، وتتذكر ذلك اليوم الذي عاشته بعد مرور خمس سنوات من مشوار محفوف بالمصاعب، وبمزيج من الدموع و الابتسامات تصف الوالدة فرحتها تلك: "استطاع شيار أخيراً أن ينظر في عيني ويقول لي ماما".

 

"نعم لقد شعرت بالتعب والإرهاق أحياناً كثيرة، لكن نظرتي للحياة خلال مشواري معه أيضاً ستتغير"، هكذا توضح الأم كيف كان لتجربتها تلك أثراً كبيراً في تغير مسار حياتها.

 

وتضيف: "أصبحت اليوم أكثر صبراً، حينما أقارن نفسي بما كنت عليه قبل سنوات ألاحظ أني أصبحت أكثر نضجاً، كما أن اهتماماتي وأولوياتي بالحياة تغيرت، فلم أعد أهتم لأحاديث الناس من حولي كثيراً، ولا لمظاهر الحياة الفارهة".

 

فيما بعد تكون لدى ميديا شغف جديد، "شغف للتعلم ورغبة في العطاء"، دفعاها للبحث عن سبيل لدعم وتقديم المساعدة لأطفال التوحد، فقررت مؤخراً الالتحاق بورشة تدريب لأطفال مصابين بطيف التوحد لتنمية مهاراتها في التعامل مع الحالات في مركز "بيسان".

 

 كما قامت بإنشاء حساب على موقع "فيسبوك" باسم "طفلي التوحدي ملاكي الرائع"، وذلك لنشر ثقافة التعامل مع الأطفال المصابين بالتوحد، حيث تشارك عبرها نشاطات طفلها، وهدفها الرئيسي من ذلك هو إيصال رسالة لكل الأمهات: "أطفالكم أجمل عطايا الله أحبوهم رغم اختلافهم".

 

جهود ميديا في هذا المجال مكنتها من نيل جائزة "الأم المثالية" من مركز بيسان خلال شهر تموز/يوليو الماضي، ضمن سلسلة جوائز شهرية تشجيعية تقدمها إدارة المركز للأمهات الأكثر متابعة لحالات أطفالهن.

 

"مختلفون لا متخلفون"

 

تتحدث المصادر الطبية عن خمسة أنواع للتوحد هي: "متلازمة اسبرجر": ويكون الطفل طبيعيّاً لكنه يعاني من مشكلة في التواصل الاجتماعي، يقرأ ويهتمّ بالكثير من الأمور، لكنه لا يتعامل بالمزاح والضحك. وهناك أيضاً "الانحلال الطفولي": ويكون الطفل فيه طبيعيّاً ولكنه يصبح عدوانياً بعد بلوغه العامين.

 

 أما النوع الثالث وهو "متلازمة كانير": ويُعدّ نوعاً منتشراً جداً، والطفل المصاب يتأخّر في النطق ولا يقبل التغيّرات، ولا يهتمّ لعواطف ومشاعر الآخرين. وهناك النوع الرابع، "اضطراب النمو الشامل": ويكون لدى الطفل مشاكل في النموّ والتواصل الاجتماعيّ، بحيث لا يستطيع النظر للآخرين في أعينهم، ولا يُظهر استجابة عاطفية مع الآخرين، كما حالة شيار الآنفة.

 

كما أن هناك نوع خامس لا يصيب إلا الإناث وهو "متلازمة ريت": ولا تستطيع الطفلة المصابة به التحكّم بيديها، بالإضافة إلى صغر محيط الرأس، ويمكن علاجها بشكل نسبيّ.

 

تقول ميسم الحصرية، وهي متخصصة الوحيدة في شمال شرقي سوريا، وتعمل في مركز "بيسان" إن" هؤلاء الأطفال ليسوا متخلفين عقلياً بل مختلفون ومميزون وبإمكانهم ممارسة حياتهم والذهاب إلى المدارس والاندماج مع المجتمع بعد تلقي الرعاية المناسبة".

 

وتؤكد الحصرية أن "هؤلاء الأطفال يمتلكون مواهب وقدرات عقلية مميزة ويمكن للمراكز المتخصصة تنمية المواهب الإبداعية لديهم".

 

وتذهب الأبحاث الحديثة إلى أن العديد من المشاهير والعباقرة ممن حققوا نجاحات في مجالات علمية وفنية واقتصادية كانوا مصابين بالتوحد، ويُذكر على رأس قائمة هؤلاء ألبرت آينشتاين، أحد أعظم علماء الفيزياء في التاريخ، وعبقريّا الموسيقا بيتهوفن وموزارت بالإضافة إلى الرسام الهولندي الشهير فان كوخ، وكذلك إسحاق نيوتن، عالم الفيزياء والرياضيات والفلك والفلسفة والكيمياء. وتشارلز داروين، الجيولوجي والعالم في التاريخ الطبيعي، وأخيراً وليس آخراً، بيل غيتس أغنى رجل في العالم ومؤسس ورئيس شركة مايكروسوفت، وغيرهم.

 

"لا إحصاءات لا مختصين"

 

وتغيب في مناطق شمال شرقي سوريا بشكل خاص وسوريا عامة، حتى الآن، الإحصائيات عن عدد الأطفال المصابين بطيف التوحد، كما لا تتعدى الأرقام المتوفرة سوى تلك الحالات المسجلة في عدد قليل من المراكز والجمعيات المعنية بأطفال التوحد.

 

ففي مركز بيسان بالقامشلي، يوجد حالياً /125/ طفلاً، بينهم /18/ من أطفال التوحد، انضموا للمركز خلال عام 2020 كما تم تخريج /53/ طفلاً خلال عامي 2018 و 2019.

 

أما في مركز "ملائكة الجنة" في دمشق، وهو أحد المراكز المعنية بحالات التوحد في العاصمة السورية، فقد بلغ عدد الحالات التي تم تخريجها خلال العام الحالي /40/ حالة، فيما كان عددها في العام الماضي /54/، كما أن عدد من يخضعون للعلاج حالياً هو /110/ أطفال.

 

وتأسس مركزان للتوحد أيضاً في محافظة إدلب خلال السنوات الماضية إلا أن التقارير الصحفية تشير إلى توقف نشاطها لاحقاً حتى نهاية العام 2017، فيما شهدت محافظة درعا جنوبي سوريا أيضاً خلال السنوات الماضية افتتاح مركز لأطفال التوحد قدم نشاطه لعدد محدود من الأطفال. كما أن معظم التقارير الصحفية المنشورة والمصادر تؤكد وجود نقص كبير في عدد المدربين المتخصصين للتعامل مع حالات طيف التوحد.

 

وعدا عن هذه الأرقام، توجد دراسة وحيدة تشير إلى إحصائيات عن أعداد المصابين بالتوحد في بعض المناطق في سوريا خلال السنوات الأخيرة، وهي دراسة نشرتها "مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية" في العام 2012، والتي أعدت بهدف تحديد أعداد الأفراد المصابين باضطراب التوحد في محافظتي (دمشق وريف دمشق).

 

وتشير الدراسة إلى أنها طبقت على جميع مراكز التربية الخاصة في كلتا المحافظتين والبالغ عددها /16/ مركزاً منها أربعة مراكز حكومية و/12/ مركزاً أهلياً، حيث بلغ عدد المصابين في دمشق /146/ من الذكور و/108/ من الإناث، أما في ريف دمشق فقد بلغ عدد الذكور /440/ و /307/ من الإناث، وتبين الدراسة أن نسبة الذكور إلى الإناث تبلغ ((1/1,41.

 

"غياب الدعم"

 

يرى المهتمون بأطفال التوحد أن وجود مراكز خاصة بهؤلاء الأطفال يخفف الكثير من أعباء السفر والتكاليف الباهظة على سكان المنطقة والعائلات التي لديها أطفال مصابون في مناطق شمال شرقي سوريا، إلا أن إدارة مركز "بيسان" تقول إن المركز لا يتلقى أي دعم من المنظمات الدولية المعنية بشؤون الأطفال ولا حتى من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.

 

ويضيف ماهر الجلعو، أن المركز يعتمد بشكل أساسي على رسومات تسجيل الأطفال، كما أن فرع عامودا كان مهدداً بالإغلاق مؤخراً بسبب الإيجارات المرتفعة في المدينة، لكن قامت إحدى المؤسسات الإعلامية المحلية فيما بعد بتقديم دعم للمساهمة باستمرار عمل المركز.

 

ويوفر مركز "بيسان" دورات لإعداد "كوادر علاجية متخصصة"، حيث تتألف هذه الدورات من ست مستويات، "تبدأ بمدرب أطفال توحد وتنتهي بمعالج تربوي وسلوكي، وفي كل مرحلة يخضع المتدربون إلى اختبارات للتأهل إلى المرحلة التالية، كما توجد شروط معينة يجب أن تتوافر في المتدربين للتقدم في كل مستوى، منها الشهادات العلمية والدورات التدريبية، بالإضافة إلى نتائج الاختبارات"، وفق إدارة المركز.