السلالات السياسية

 

رحلت الأسبوع الفائت جين كينيدي سميث، آخر عنقود العائلة السياسية الأمريكية من آل كينيدي، وشقيقة الرئيس الأمريكي الراحل جون إف. كينيدي.

 

يسجّل التاريخ للراحلة جين، تلك الكينيدية الدبلوماسية المخضرمة، دورها البارز في ريادتها لصناعة عملية السلام حين كانت سفيرة لبلادها في إيرلندا الشمالية في التسعينات من القرن العشرين، ما جعلها تحوز على لقب مهندسة "الجمعة العظيمة" لاتفاق السلام  الذي أُبرم في العام 1988 إثر حروب طاحنة امتدت لثلاثة عقود من الزمن لإنهاء الحكم البريطاني في البلاد.

 

عائلة كينيدي هي من العائلات السياسية العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أكثرها قرباً من قلوب الشعب الأمريكي وقدرة على جلب تعاطفه بينما سيطرت الأحداث والنهايات التراجيدية على حياة أفرادها. وكان مقتل الرئيس الأمريكي الأسبق، جون كينيدي، في حادث اغتيال في مدينة دالاس بتكساس العام 1963، قد روّع المجتمع الأمريكي وأحزنه حتى يومنا هذا، وغدا لغزاً لم تُحلّ شيفرته البتة.

 

للراحلة جين إخوة ثلاثة أيضاً قضوا في الخدمة العامة، أحدهم روبرت كيندي وقد اغتيل وهو في ريعان شبابه وفي خضم حملته للانتخابات الرئاسية في العام 1986، بينما رحل الشقيق إدوار كيندي وهو عضو في مجلس الشيوخ وكان مازال يمارس الخدمة العامة حتى عامه الثاني والتسعين، أما الأخ الأكبر جوزيف فكان قد لقي حتفه وهو يقود طائرته العسكرية في الحرب العالمية الثانية.

 

عُرف عن عائلة كينيدي انخراطها في الشأن العام والحياة السياسية الأمريكية، ودفاعها عن الحقوق المدنية وفي مقدمتها حقوق الأقليات والمهاجرين والفقراء، وكان آل كينيدي عموماً رعاة للإصلاح الصحي والتعليمي والحقوقي في البلاد.

 

لا ينكر الأمريكيون على عائلة كيندي، كما لم ينكروا على عائلة بوش من قبل، حقَّ تعاقب أفرادها في الحكم وتسيير شؤون الدولة. واحتفظت تلك العائلات التي تبوأ أفرادها بالتعاقب مناصبَ عليا سيادية، بما فيها رئاسة الدولة، بقدرها وموقعها في الذاكرة الشعبية الأمريكية. لم  يعزل الأمريكيون تلك العائلات، ولم يتوجسوا منها ريبةً أو يتهيّبوا بطشاً، ولم يروا في أفرادها مجرد مغتصبين للسلطة، محتكرين للعمل السياسي، نفعيين أوانتهازيين.

 

فهؤلاء الذين صادف أنهم من عائلة واحدة، دخلوا عالم السياسة من باب الكفاءة والمعرفة ولم يقفزوا إليه من الشبّاك الخلفي. سخّروا مواقعهم لخدمة الشعب الذي جاء بهم إلى السلطة، أرادوا تطوير القوانين وتسريع التنمية وتمكين الحريات وتوفير فرص العمل ورفع مستوى الرفاه وتمكين أسس الديمقراطية والحقوق الإنسانية المدنية التي قامت عليها أمريكا.

 

هؤلاء الشقر، ذوو العيون الزرق من السلالات الأيرلندية، كانوا الأقرب إلى الدفاع عن حقوق أصحاب البشرة السوداء. أرادوا المزيد من الحقوق والحريات وتكافؤ الفرص والمشاركة السياسة للسود والمهاجرين والأقليات. ففي انتخابات الرئاسة العام 2008 كان الدعم الذي منحه السيناتور إدوارد كيندي لباراك أوباما عاملاً قوياً وراء فوز أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي له على منافسته هيلاري كلينتون، وساهم لأول مرة في تاريخ أمريكا في إيصال رجل أسود إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض.

 

قد يكون الإخوة كينيدي احتلوا مراكز سيادية عديدة في أروقة واشنطن السياسية، إلا أنهم تبوأوا مناصبهم بإرادة من الشعب ولم يفرضوا أنفسهم فرضاً على الناس والدولة. جاؤوا بهدف تطويع السياسية لتحقيق مصالح شعبية وأهداف وطنية عليا، فكانوا مؤسسين ومنتجين، ولم يكونوا متطفلين أو نفعيين. أداروا شؤون الدولة ولم يجعلوا من كراسيهم مطية لعنجهية أو استقواء أواستبداد. عزّزوا من سلطة القانون ومساحة الحريات وحقوق الأفراد ولم يفصّلوا القوانين على مقاس كراسيهم وحساباتهم البنكية، أويمنحوا الأمن مقابل كسب الولاء ترغيباً جاء أم ترهيباً.

 

الأمريكيون لا ينفرون من العائلات السياسية، ولا يشكّل المصطلح لديهم عقداً نفسية أو يولّد كوابيس تؤرق منامهم ويقظتهم. فولاء أفراد تلك العائلات للمصالح الأسرية الضيقة سيتوقّف عند حاجز واجبهم الأخلاقي والقانوني حين الشروع في العمل العام، حيث مصلحة المواطن وحقوقه في الأمن والعمل والرفاه هي الهدف والواجب، وحيث المساءلة والمحاسبة هما توأم عقيدة المؤسسة السياسية الأمريكية وأداتها لمتابعة أداء المشتغلين بالشأن العام وأصحاب المناصب السياسية في الدولة، تلك العقيدة التي تبني وتسيّر المؤسسات فتُخضعها لعين الرقابة والشفافية لضبط حالات الفساد السياسي أو المالي وإحالة مرتكبيها إلى منصة الرأي العام ومنبر القضاء حيث صاحب الجلالة هو القانون والسلطة التي لا سلطة يُعلى عليها.

 

فهل يمكننا القول أن السلالات السياسية العربية تخضع بدورها لتلك الضوابط والأساليب العصرية للحوكمة لتكون مقبولة وقريبة من الشارع كما حال آل كينيدي.. جعلني رحيل شقيقة "فرسان الكاميلوت" أتساءل!.