ماذا يحدث في أمريكا؟

 

العنف لا لون له ولا عرق ولا دين. إنه تصرّف فردي ينمّ عن عقد شخصية وانحراف أخلاقي وإنساني؛ لكن للأسف حادث فردي واحد يمكن أن يكون سبباً في كوارث اجتماعية وسياسية ممتدة.

 

فمقتل المواطن الأميركي، جورج فلويد، على يد رجل شرطة عنيف ومستهتر بتعليمات وبروتوكولات مؤسسة الشرطة في الولايات المتحدة أولاً، وبالحياة الإنسانية والقيم الأمريكية التي أقرّها دستورها ثانياً، تلك الضامنة للمواطنين الأمريكيين جميعاً ودونما أي تفريق بينهم "الحق في الحياة والحرية واقتفاء السعادة".

 

هذه الحوادث تقع في أمريكا منذ عقود بعيدة، وتبقى فردية ومحدودة بمحيطها طالما لم يتم تسييسها أو تجييرها لصالح تجاذبات سياسية بين الحزبين الأمريكيين الديمقراطي والجمهوري، وبخاصة في مرحلة دقيقة جداً تقع في صلب الحملات الانتخابية الرئاسية للعام 2020. ولم يكن وصول أول رئيس أمريكي من أصول إفريقية وصاحب بشرة سمراء، إلى سدّة البيت الأبيض، قادراً على إنهاء هذه الحوادث أو الحدّ منها.

 

ففي العام 2012، وفي الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قام رجل شرطة أبيض في ولاية فلوريدا بإطلاق النار مباشرة على الشاب  "ترايفن مارتن"، وهو طالب ثانوي أمريكي من أصول أفريقية، غير مسلح، عمره (17 عاماً) فقط، وأرداه قتيلاً دون سابق إنذار. الحادث أجّج احتجاجات شعبية واسعة في ذلك الوقت. وقد زاد الطين بللاً أن مقتل هذا الشاب الأعزل وهو في طريقه إلى منزله لم تتحقق فيه العدالة والاقتصاص من قاتله، فالمحكمة برّأت ساحة الشرطي القاتل، واعتبرته في حالة دفاع عن النفس. تلك الجريمة البشعة أسّست لحركة اجتماعية وسياسية واسعة في العام 2013،  أسسها أمريكيون من أصل إفريقي دعيت "حياة السود مهمة" (Black Lives Matter)، وهي التي تقود المظاهرات السلمية في العام 2020 إثر مقتل جورج فلويد.

 

وفي العام 2016، أي في نهاية الفترة الرئاسية لأوباما، قام شرطي أبيض في ولاية مينيسوتا بقتل رجل إفريقي أمريكي هو فيلاندو كاستيل، وهو وراء مقود سيارته وإلى جانبه صديقته. مقتل كاستيل الأعزل هو الحادث الثاني الكبير من هذا النوع  في عهد أوباما، وقد أدى إلى اتساع حركة "حياة السود مهمة" بشكل كبير، وانتشار أفكارها الداعية إلى العدالة والمساواة في ظل دولة المواطَنة المتساوية.

 

من الضرورة في هذا السياق الإشارة إلى أنه ‏منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض في العام 2016، وحتى اقتراب فترته الرئاسية الأولى من الانتهاء مع نهايات 2020، كانت التجاذبات الحزبية التي تعيشها واشنطن تشكل جزءاً ‏ليس باليسير من حياة الرئيس والإدارة الجمهورية من جهة، ومن حياة المواطنين الأمريكيين وتأثرهم بهذه التناقضات العميقة بين السياسيين من الحزبين من الجهة الأخرى. فالخصوم الديمقراطيون للرئيس ترامب قرروا منذ اليوم الأول من وصوله إلى رأس الحكم في واشنطن أن يجعلوا من الصعب أن تستتبّ الأمور له.

 

‏ومنذ الشهر الأول لفوزه بالرئاسة لجأوا إلى الطعن بصحة فوزه، وبنزاهة حملته الانتخابية عن طريق كيل التهم  لمجريات الحملة ولمستشاريها وعلاقاتهم وأدائهم،  وبالادعاء أن الحملة كانت مخترقة من دول خارجية وعلى رأسها روسيا. وقد استندوا في ادعائهم هذا إلى طبيعة العلاقة التوافقية غير الحدّية التي تربط بين الرئيس الروسي بوتين والرئيس ترامب، ‏وأن هذه التوافقات غير المعلنة كانت ممراً لروسيا لتتدخل في شأن داخلي أمريكي، ولتوجّه الرأي العام عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي – ولاسيما فيس بوك – باتجاه  انتخاب ترامب.

 

ثم ما لبث أن بدأ الديمقراطيون بالتجييش في الكونغرس من أجل إحالة الرئيس إلى المحاكمة وتهيئة السبل القانونية لعزله من منصب الرئاسة، موجهين له تهماً عديدة وفي مقدمتها "التواطؤ" و‏استغلال منصب الرئاسة لمصالح خاصة. إلا أن المحكمة المختصة في مجلس الشيوخ برّأت الرئيس من التهم الموجه إليه، ولم يتمكن الديمقراطيون من إزاحته من البيت الأبيض.

 

 وأخيراً وليس آخراً جاءت جائحة كوفيد 19، واجتهد خصوم الرئيس ترامب من جديد بشكل مثير للاشمئزاز في استغلال الحالة الصحية التي سببت عشرات الألوف من الوفيات بين الأميركيين؛ فليس من الأخلاق الإنسانية والقيم الأميركية التلاعب بصحة المواطنين من أجل تحقيق أهداف سياسية، ووضعهم في حالة عدم الثقة بحكومتهم ما يثير مزيد من الخوف والذعر بين المواطنين، هذا ناهيك عن إرهاب الوباء المنتشر عينه.

 

‏اليوم، وفي مرحلة دقيقة جداً من الروزنامة الانتخابية الأميركية، وفي غمرة غليان الشارع الأميركي إثر مقتل فلويد، ‏يعود الديمقراطيون إلى المناورة نفسها وتوظيف هذه الحادثة المؤلمة، والتي خرج فيها البيض في واشنطن بأعداد كبيرة قد تفوق السود في مظاهرات سلمية يوم السبت، بهدف إضعاف المعسكر الانتخابي الجمهوري. وها هو المنافس الرئاسي "جو بايدن، يعمل على تأجيج النار والدفع إلى المزيد من الفوضى بدلاً من وضع الحلول والخطط لهذه المشكلة المتقادمة في المجتمع الأميركي بعد أن أمضى ثماني سنوات في الحكم نائباً للرئيس أوباما ولم يستطع خلالها أن يقدّم أية حلول أو خطط لهذه المشكلة المتفاقمة اليوم، والتي من شأنها أن تقوّض التعايش السلمي بين المواطنين متعددي الأعراق والمشارب في بلد المهاجرين – الولايات المتحدة الأميركية.

 

مكمن الخطر الحقيقي على السلم الأهلي إنما يقع في المحاولات الرخيصة لتسييس هكذا قضية إنسانية خالصة، وتوظيفها لخدمة مصالح حزبية ضيقة؛ وهو خطأ جسيم يقع فيه الديمقراطيون وكل من يحاول تأجيج النقمة والانقسام بدلاً من ابتكار المخارج والحلول، خطأ بإمكانه أن يودي إلى كارثة عظيمة قد لا يكون من الممكن الرجوع بعدها إلى الاستقرار المجتمعي.