لعنة التمثال

 

بالنتيجة تحرر "محمد" من التماثيل، وحتى من الصور والرسومات التي تعلن عنه، يقولون:

 

ـ خوفًا من الارتداد للوثنية.

 

ويقولون:

 

ـ لأنها (التماثيل) تحول دون دخول ملاك التوبة بيت صاحبه، لأن الملاك قد يرى في هذه الصورة مسخاً للعمل الإلهي، فيبتعد عن البيت المذكور.

 

هذا عن البيت،  فكيف عن الساحات العامة.. عن المنحوتات الكبرى تلك التي طاردت المارّة ومن ثم طاردها المارون؟

 

ذاك العملاق (محمد)، كان يعلم علم اليقين، أن ضوء الأفراد يغيب، وأن التاريخ مادة سائلة، فكما قام الإسلام و(برعايته) عند فتح مكة بتدمير ما يزيد عن /360/ تمثالاً في الكعبة وحدها، ومنهم الإله هبل، وأُمر بتدمير مئات الأصنام الأخرى، كأساف ونائلة ومناة والعزة واللات… قد ينعطف الزمن ليأتي من يدمر تماثيله ويطيح بأزاميل النحاتين.. لم لا؟ من ذا الذي يستطيع ربط التاريخ.. العقائد.. المعبود والمنبوذ ليرسم له صورة ثابتة، أزلية، تستعمر وجدان الناس.

 

لهذا لم نر لمحمد تمثالاً، ولا لأي من صحابته، فالناس المتحوّلون، أولئك الذين غادروا التمر المحسوس للإله المجرّد، الإله الذي لا صورة له، المنزّه عن الشكل النهائي، الثابت.. قد يتحوّلون عن تمثاله لو كان لمحمد تمثال.

 

لهذا استعاض في امبراطوريته الفتية بالزخارف الزهورية والتجريدية وبالحرف، واستبعد من مملكته صور الهيئات الإنسانية والحيوانية، وصبّ الكثير من غضبه على النحّاتين.

 

ـ فعل ذلك لأنه :"نبي".

 

ونقول نبي هنا، اشتقاقًا من النبوءة، تلك التي ترى للكثير من قادم الزمن.. للزمن بانعطافاته، بصعوده وانحطاطه، وبكل اعوجاجاته، ولو لم يفعل ذلك لما كان نبيًا، فها هي البشرية تنقضّ على التماثيل.

 

فعلت ذلك طالبان يوم دمروا الآثار البوذية في أفغانستان قبل /18/ عامًا بعد عجزهم عن حلحلة أحجية يعود تاريخها إلى 1500 عام.

 

وفعلها الأمريكان قبل أيام معدودة يوم فككوا تمثال كريستوفر كولومبوس ورموا أشلائه في المياه.

 

ليس تمثال كريستوفر كولومبوس وحده، لقد تمت الإطاحة بتمثال جيفرسون دافيس، رئيس الكونفيدرالية من مدينة فرجينيا التي وصفها الانفصاليون الأمريكيون بأنها عاصمتهم. وفي ولاية ألاباما، تم هدم تمثال روبرت إى لى، الجنرال الأكثر تكريما في الكونفيدرالية أمام مدرسة ثانونية فى مونتجمرى تحمل اسمه، وعبر ولايات الدنوب، في فرجينيا دمروا التماثيل.

 

حدث ذلك يوم أدت المشاهد الدرامية إلى تذكر سقوط الاتحاد السوفيتي عندما دمر الحشود تماثيل لينين وستالين ورموز الفترة الشيوعية.

 

تدمير التماثيل لقادة الحرب الأهلية في أمريكا استغرق أقل من أسبوعين من الاحتجاجات على مقتل جورج فلويد، وتدمير تماثيل لينين، ستالين، قد جاء على يد "الفودكا".

 

يا لها من فودكا رائعة تلك التي تسمى: سميرنسكي.

 

ـ هل تذكرون تمثال صدّام حسين؟

 

كان مشهدًا أكثر إضحاكًا من أية ملهاة، فالضحايا زحفوا من كل الاتجاهات، وبكل الأيدي والمطارق، ليرسموا حدًا لتلك البارانويا المزيفة التي صاغها الرجل لبلاد اسمها العراق، فكان سقوط رأسه وهو يرتطم بالرصيف وسط زغاريد العراقيين وقد رسموا نهايته.. وساقوه إلى العدم.. مشهدًا مدويًا لسقوط ديكتاتور بارد كما الجليد.

 

كان إعدام التمثال قد استبق إعدام الرجل، وقبل هذا وذاك، ما أن دخلت القوات الأمريكية إلى قلب العاصمة بغداد حتى شاهد العالم كله جندي أمريكي يضع العلم الأمريكي على رأس تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، وسط فرحة وتهليل مجموعة من العراقيين.

 

ـ لقد دمر العراقيون المهانون تمثال صدّام حسين، ولا حظوا أنه لم يقترب متظاهر واحد من تمثال الحرية.. التمثال الذي اشتغلت عليه أصابع وذاكرة النحّات جواد سليم.

 

حتى خوفو، وإن كان يجثو على صحراء الهرم، فها هو يجثو بلا أنف.. لقد دكّت مدفعية بونابرت أنف الفرعون، فبات فرعوناً بلا أنف، وبلا شك فاقداً لحاسة الشم.. بات:

 

ـ فرعوناً لا يلتقط رائحة المكان.

 

ـ ما الذي يتبقى من الفرعون حين يفقد حاسّة الشم؟

 

ويوم ثابر واحد من النحّاتين السوريين، ليصنع منحوتة لحافظ الأسد، كنت قد سألته:

 

ـ ما هذه الكتلة التي ستضعها في فراغ المدينة.

 

حكى لي عن المكافأة المالية التي ستعيدها إليه تلك الكتلة، كانت مجزية بلا شك، كفيلة بشراء غسالة أوتوماتيك، وثلاجة، ودراجة هوائية لابنه البكر، وربما كانت كافية لتسديد المصرف العقاري كمًّا من الأقساط لمنزل اشتراه على هوامش المدينة، حيث البيوت ملتصقة بالبيوت، وبائعو الخضار  لا يبخلون في البيع المؤجل لزبون يبحث عن خلطة من سلطة الخضار يحشوها في فم التمثال.

 

ـ بقّالون لا يكنّون أي احترام للتماثيل.

 

كان تمثالاً للرمز التاريخي.. رمز على هيئة رجل متصلّب تحت الصقيع، رجل يمد يده باستقامة مع الكتف، ويخاطب جمهوره بالقول:

 

ـ كلكم راحلون ووحدي الباقي.

 

تمثال بلا دماغ، ولا أوعية دموية، وحتى جهاز تكاثره كان غارقًا في سرواله بما يشي وكأنما ليس للرجل جهاز ذكري.

 

مع ذلك دُشِن التمثال باحتفال ينعتونه بـ "المهيب"، ورفعت عنه الستارة جحافل من المحتفلين المزغردين أيضًا.. هي ذي سمة الاحتفالات، زغاريد لسقوط التمثال، تقابلها زغاريد لرفع الستارة عنه في احتفالات التدشين وسط حراسة مشددة من الحرس الجمهوري.

 

كل التماثيل مضحكة، بما فيها تماثيل ستالين التي تباع على أرصفة الساحة الحمراء، ووجهه مطبوع على الهدايا التذكارية، وكذا حال منحوتات هتلر وهو يصلّي، ولا أدري السر وراء امتناع الألمان عن بيعها أو اقتنائها.

 

نقول كل التماثيل؟

 

ـ  يا للعيب فيما نقول، بل يا للمهزلة، ذلك أن رُفات عشرات الآلاف من الضحايا دفنوا تحت قدمي هذه المرأة الحاملة للسيف والتي تقف مثل ملاكٍ مُنتقم في الأفق وهي صاحبة تمثال الأم. تمثال يظهرها طويلة للغاية حتى أن بإمكانك رؤيتها من الأسفل من ملعب فولغوغراد شاهدة على هذا التاريخ.

 

والحال كذلك، ما بالك بتمثال "ديفيد" بإيطاليا؟

 

هو تحفة فنية من عصر النهضة وتم العمل فيه بين عامي 1501 و1504 للفنان الإيطالي مايكل أنجلو، ويصل ارتفاعه إلى /5/ أمتار، وهو تمثال من الرخام لذكر عارٍ، وهو معروض في معرض أكاديميا في فلورنسا بإيطاليا منذ عام 1873.

 

تمثال لا يخفي شيئًا من ذكورته، ليس كما تمثال حافظ الأسد وقد ترك مساحة فارغة تحت سرواله، أو حتى تمثال صدام حسين وهو يحمل بندقية فارغة من الرصاص.

 

كلنا راحلون ويبقى التمثال..

 

ولكن ماذا حين يسقط التمثال ويخرج من الحلبة خالي الوفاض؟

 

من حق التاريخ أن يقف عند قدمي أبو العلاء.. من حقه أن يمارس الذاكرة ليصطاد الأيائل عربونًا لمولد شهرزاد.

 

من حقنا أن نبحث عن تمثال لهذا وتلك، لنحميه برمش العين ورمش القلب، ولكن كيف لنا أن نمنع الأيادي المتشققة بحثًا عن رغيف الخبز وبعض الفضاء الحُرّ أن تمتنع عن حمل المطارق حين يكون التمثال لصدام حسين.. حافظ الأسد؟ كيف لنا أن نمنع المطارق من الانهيال على تلك الرؤوس الفارغة.. القلوب الفارغة.. الأوردة الخالية من الدماء؟

 

ـ حكمة التاريخ أنها أطلقت مهنة اسمها صانع الأقفال.. حكمته المعاكسة أنها أطلقت مهنة اسمها فاتح الأقفال.

 

فاتحو الأقفال يعرفون الطريق إلى مطارق تحطيم التماثيل.