متر مربع من الجحيم

 

عليك أن تسخر، أقله حين تواجه مالا تستطيع منع حدوثه، يحدث ذلك لأن عليك أن تستبعد ما يمكن أن يواجهك بفظاعته.

 

ـ تسخر لتجابه.

 

هي مجابهة، لا مكان فيها لحسابات الخسارة والربح.. كل ما في الأمر أنها توطيد لحقيقة أن الحياة لم تعد تحتمل المزيد من أخذ الأمور بالصرامة الكاملة..

 

"لك أن تغيّر حياتك إن أحسنت اللعب"!!

 

قد تتلقاها كنصيحة بلا ثمار، ذلك أنه لا تبديل لما يكتبه التاريخ، فالتاريخ يكتب تراجيدياته التي يشاء وهو يحمّلنا كل ذلك الاضطراب الذي يحمله، دون أن ينقذنا أن نحشو ثلاجاتنا بالغذاء.

 

كيف الحال حين تغدو الثلاجات فارغة، ونوافذ المنازل ضيّقة، والنظر إلى الحدائق لا يمد الناظر بالقليل من المعنى؟

 

ـ هي التراجيديا التي يحكون عنها، وقد تدرجت صعودًا وصولاً إلى نزع القناع عن كل وجه بمن فيه وجوه الآلهة.

 

ـ ما الذي بقي في هذا العالم من تراجيديات مؤجلة؟

 

أتابع وثائقي عنوانه "متر مربع من الجحيم، هو يحكي عن هونغ كونغ.. عن بنك العالم، مخزن المال الأسود والشركات السوداء، مستودع قوّة العالم وأكبر مركز مالي في جنوبي شرقي آسيا.. المكان الذي يقع على رأس هرم الاقتصاديات في العالم.. في هونغ كونغ ربع مليون إنسان من أصل سبعة ملايين، ووفق تقديرات هيئة الأمم المتحدة يعيشون في ظروف فقر تعتبر إهانة للكرامة الإنسانية، سكن العائلة الواحدة لا يتجاوز (القفص)، نعم القفص، بالمعنى الواقعي لكلمة القفص، ما يعني ذاك المكان المسوّر بأسلاك الحديد، وفي القفص، لن يتاح للعازف  تشاو بان فاي أن يمرر قوسه على طول ذراعه، فالمكان ضيق.. إنه متر مربع من الجحيم.. تشاو بان فاي لا تزيد حصته الغذائية عن ربع وجبة في اليوم الواحد، مع أنه يركض طيلة النهار ليعثر على ما يكفي من درن النباتات ومن كارتون الحاويات ليطبخه.

 

ـ في هونغ كونغ، بنك العالم، هنالك عازف يطبخ الكرتون ليأكله.

 

المتر المربع من الجحيم، هو عنوان حضارتنا، سمة زمننا، جحيم المصارف، يقابله جحيم الدكتاتوريات الفظيعة، الفظّة، الشرهة، الملتهم، ذاك في هونغ كونغ.. وهذا في سوريا:

 

ـ خمس وخمسون صورة فوتوغرافية التقطها متسلل واحد إلى بعض من زنازين العار في سوريا.. بشر بلا رؤوس، بلا أذرع، بلا أسنان، وبلا أظافر يخدشون بها وجه السماء الأعمى. ولم يكونوا وحدهم حصيلة تلك المذابح التي ارتكبها رجل لزج، ربما له رائحة التيس في أطول حرب أطلقها على البلاد ليخلّص نفسه من أحكام أطلقها عليه الآخرون، غير آبه بأن إماتة الناس جريمة.

 

ـ كيم ايل سونغ في كوريا الشمالية، قتل /1,6/ مليون إنسان.. ليس كثيرًا على الإله أن يتصيد ذبابه، هكذا يرى كيم المسألة.. ألسنا ذباب الله؟.

 

ـ "بارك تشونج هي" في كوريا الجنوبية .. قتل ما يقارب ما قتلهم كيم ايل سونغ في كوريا الشمالية، وكان يكفي أن تطيل شعر رأسك أكثر ما يسمح به القانون لتعدم، ما يعني أنه حوّل الحلاّقين إلى قضاة.

 

هل بوسعنا أن نحكي عن فرانسيسكو ماسيا نغيوما، وقد دفن خزينة بلاده من الذهب في حفرة تحت سريره فيما دفن غينياً مع خزنته فريسة للفقر؟

 

نحكي عن رافائيل تروخيلو وقد أعلن نفسه إلهًا (بالمعنى الجدي لكلمة إله)، ثم منح ابنه الرضيع رتبة جنرال في جيشه؟ أما عن زوجته فنصّبها ملكة.

 

عن عيدي أمين وقد أعلن أنه لم يستطيب لحم البشر لأنه فائض الملوحة؟

 

لا.. سنحكي عن أمريكا، مالكة العالم، ومدبّرة هذا الكون ومديرته، وهاهم الأمريكان في سان فرانسيسكو يهرعون إلى تفكيك تمثال كريستوف كولومبوس… يقطعون رأسه «يجب علينا جميعاً أن ندين كلّاً من العبودية والقهر والاحتلال… التمثال يمثل نسخة خيالية من تاريخنا يحتفل بالرجل بينما يتجاهل الأذى الذي تسببت به أفعاله» هذا ما تقوله  كاثرين ستيفاني المسؤولة بالمدينة في بيان نشر على «تويتر» وقالت إن النصب يمثل «الأسس المؤلمة» لتاريخ البلاد. وقالت ستيفاني: «يجب علينا جميعاً أن ندين كلّاً من العبودية والقهر والاحتلال… التمثال يمثل نسخة خيالية من تاريخنا البشع".

 

تظاهرات، وانتفاضات، وقتل ، وسخرية..  هو العالم وقد بات العيش فيه ليس هيّنًا، ولو كان هيّنًا لما توقفت الحياة على الكوكب واعتزل الناس فضاءات الخارج، حتى طالت المخاوف كل فرد من هذا العالم، بمن فيه عارضات الأزياء اللواتي وعن غير قصد، جاء أحد عروضهن في أسبوع الموضة في باريس في الوقت المناسب، إذ ارتدت العارضات ثياباً من مجموعة الملابس الجديدة مع أقنعة وجه ملائمة لها، ومصممة هذه المجموعة هي الفرنسية مارين سيري، التي صممت الملابس.

 

حدث ذلك قبل تفشي فيروس كورونا، قناعة منها بأن هذا العالم لم يعد يحتمل وجهك.. ليس وجهك وحدك من أكلته الشمس وأنت من عمّال المقالع.. لا.. كل الوجوه، بمن فيها الوجوه الظافرة، وجوه السادة، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما سمعنا ستيف جوبز، رئيس مجلس إدارة شركة آبل وواحد من أثرياء الكوكب يقول لنا:" حياتي هي جوهر النجاح ، لكنني ليس لدي فرح كبير بما أملكه. في النهاية الثروة أصبحت مجرد رقم أو شيء من الأشياء التي اعتدت عليها".

 

"في هذه اللحظة، وأنا مستلق على سريري، مريض وأتذكر شريط حياتي، أدرك أن كل سمعتي والثروة التي أمتلكها لا معنى لها في وجه الموت الوشيك.. لحمل الألم أو المرض نيابة عنك"،  كلام يذكرنا بما قاله الخليفة معاوية بن أبي سفيان وقد نقله أبي حيان التوحيدي في رسالة الصداقة والصديق وإن من زمن آخر حيث الدماء تطال شكائم الخيول "أكلت الطعام حتى لم أجد طعمهُ، وركبت الإبل والدواب حتى استرحت من المشي، ونكحت الحرائر والإماء حتى ما أبالي إن وضعتُ ذكري في فرج أم في حائط؛ والله لا أجد اللذة".

 

ـ العالم هو الطاغية، ليس اليوم فحسب، هو الطاغية في كل عصر، ومع الطاغية هي العزلة.. العنف والمكائد، وصولاً لأن يلتهم الطاغية نفسه.

 

ـ في روايته "اللجنة"، حكى لنا صنع الله إبراهيم كيف يأكل الطاغية نفسه، بعد أن يأكلنا.

 

طغاة المال، كما طغاة السلاح، وقد أسماهم جون بيركنز بـ "القاتل الاقتصادي"، بعد أن مضى يكشف لنا تلك الأصوات التي تأتيه من الماضي.. الأصوات التي اقترح أن يسميها ألم الضمير، ومع ألم الضمير يفصّل فيما ارتكبته الولايات المتحدة من آثام، ومن تجارة رقيق لتقتات "وول ستريت" بثروات الشعوب الأدنى. ومن ثم هل حصل وتأمل أيّ منا دونالد ترامب؟

 

لنتابعه خطوة خطوة، تغريدة تغريدة، ما الفارق ما بينه وبين الشمبانزي؟

 

فلينبئنا متتبع أثر عن الفارق ما بينه وبين الشمبانزي، سوى أن الشمبانزي يكتفي بجوزة الهند، أما ترامب  فهو الحلقة الضائعة ما بين الإنسان والقرد.

 

طغاة المال.. القاتل الاقتصادي، لا فرق، إنه ذاك الكائن المعزول، غير المرئي، الشبح، ذاك الذي لا تراه، فيما يهدر دمك، يطلق أول قنبلة ذرية في التاريخ على هيروشيما وناغازاكي، ولابأس أن يطلق الحرب الفيروسية اليوم.. ربما بخطأ مخبري، وربما بإرادة القاتل، وربما لم يكن هو من صنّع الفايروس، قد يكون على الطرف الآخر من المحيط، ربما يكون من مختبرات ذاك المختبر الصيني ليطيح بأجهزتنا المناعية، فيحجر علينا، ومن بعده يطلق عليه "الفيروس الصيني"، ومع الفيروس الصيني، سيكتب طالب يدرس العربية في بيروت على ظهره:

 

ـ أنا لست فيروسًا.

 

ثم يحكي الطالب الذي اختار اسمًا عربيًا هو أمير وانج، كيف أن الأمر وصل إلى حد شتمه، وكيف أنه يشعر بالألم من الذين يلاحقونه من اللبنانيين في بيروت، أو صيدا، واصفًا من يقومون بهذه الممارسات، بأنهم "معدومو الضمير"، ويبدي وانج أسفًا للتغير الذي طرأ على تعامل اللبنانيين معه، فبعد أن كان يشعر بأنهم أهله وعائلته، صار يشعر بالأسى لاجتنابهم له.

 

ومع كل ذلك، فها نحن ننتظر الأمريكاني أو الصيني لنشتريه، وليس لنا من المال سوى القمح المحروق.

 

ـ قمح الجزيرة السورية المحروق.. قمح درعا المحروق.. قمح السويداء المحروق، وزيتون عفرين المسروق.

 

ليس بوسعنا شراء اللقاح، ولا رغبة لنا للنجاة من الفيروس.. فأسباب الموت كثيرة ووارفة، وما لابد منه، لا غنى عنه، هذا ما تقوله صبية سورية تردد:

 

ـ أخاف أن أموت عذراء.

 

البنت تخاف الموت بعذريتها.. معذورة في مخاوفها فالشباب إما قتلى أو سجناء، أو فارين وقد تقتلهم الزوارق المطاطية وهم يقطعون نهر ايفروس.

 

قد يقتلهم الماء، يحدث ذلك، وقد يقتلهم النسيان، يحدث ذلك، وقد تقتلهم الذاكرة، يحدث ذلك، قد يقتلهم الصمت يحدث ذلك، وقد يقتلهم الضجيج، وبالنتيجة ثمة ما يقتلهم، وقد باتوا على يقين من أن العالم ليس سيرة للعظماء، ومن العار أن يكون كذلك.. ليس ذاك العالم الذي يحكمه نبي أو فيلسوف، إنه "سيرة القاتل".. هذا هو العالم.

 

هو سيرة القاتل:

 

ـ القاتل الجنرال أو القاتل الاقتصادي، وربما القاتل الفيروس.

 

ليس التاريخ ولا الحاضر هو ما يطلق عليه نيتشه "النظرة البطولية للتاريخ وبقوة الفلاسفة"، لا، إنه الخوف والرعشة، وكان قد وصفها كيرغارد بـ "أن تحول قفزة الحياة إلى مشي.. هو المعجزة الواحدة والوحيدة".

 

هو الأمر كذلك.. إنه زمن المعجزة.

 

إنه زمن الطغيان، التسلطي، المستبد والتفردي.

 

إنه الطاغية.

 

طاغية سئم، أو طاغية مبتهج، كلاهما طاغية.

 

طاغية يأكل نفسه، أو طاغية يأكلنا.

 

على هذا العالم أن يتغير، سوى ذلك كل ما علينا فعله هو البحث في ملابسات موتنا لنعقد صفقة مع الموت وننتزع مترًا مربعًا من الجحيم.