السويداء.. درعا.. إدلب: دعونا نتنفس

 

كان نيكولاس الثاني، قيصر روسيا قد شعر "بالمرض مع العار على خيانة سلالته خيانة كاملة"..  حدث ذلك يوم تنازل القيصر عن الحديد والنار وإهانة البشر كما تقاليد أجداده، بعد أن منح الحقوق المدنية الأساسية لروسيا القيصرية، وسمح بتشكيل الأحزاب السياسية، وتوسيع نطاق حق الانتخاب نحو الاقتراع العام، وإنشاء مجلس الدوما باعتباره الهيئة التشريعية المركزية.

 

لقد تردد نيكولاس الثاني طويلاً وجادل لأيام، ولكنه في النهاية وقّع على الوثيقة تجنبًا لحدوث مذبحة، في بلاده.

 

كان ذلك في العام 1914، غير أن البلاشفة وبعد انتصاراتهم أعدموه رميًا بالرصاص بعد استيلائهم على السلطة إلى جانب أسرته وحاشيته، فكان أن ارتكبوا إثمًا.. إثمًا لم ينسه الأحفاد من الروس، فها هي الكنيسة الارثوذكسية الروسية، تعيد الاعتبار للرجل، وتمنحه القدسية بصفته:

 

ـ  حامل عاطفة

 

لقد جنّب القيصر بلاده من ويلات الحرب الأهلية، ولم يحمل على عاتقه ميراث الدم الموروث عن أجداده القياصرة، فبات دمه يساوي النبيذ المقدّس.. مرة ثانية:

 

ـ إنها العاطفة

 

في هذا الشرق، حيث لا أساطيل، لا قياصرة.. في هذا الشرق، ضباع يلعبون بالسلاح، يقتلون، بدافع القتل وحده، ويمكثون حيث لاكاتارينا الثانية، ولا ميراث يتجاوز "بول البعير".. خيميائيون يتعطرون بروائح الجثث، فلقد جاء بريماكوف قبل الاجتياح الأمريكي للعراق، حاملاً رسالة من فلاديمير بوتين.. كانت الرسالة سريّة جدًا، وشخصية جدًا، وناصحة جدًا، أما محتوى الرسالة فكان:

 

ـ تعال يا سيدي الرئيس واطلب اللجوء السياسي في موسكو.. سنوفر لك كل سبل الرفاهية.

 

ثم:

 

ـ سنمحو من الذاكرة ذاكرة حلبجا.

 

لقد اكتفى صدام بإشارة من يده، رافضًا عرض بريماكوف، بعد أن وصفته حاشيته ومن بينهم طارق عزيز بأنه:

 

ـ صامد كالجبال.

 

وكانت النتائج، اجتياح العراق، ومليون قتيل وربما أكثر، وجحافل من الصبيان اليتامى، وعراق لن ينهض بعد أن دمر فيه البشر والحجر، وكانت المشنقة، فيما تحوّل العراق ذو الستة ملايين نخلة والنهرين وآلاف العلماء، إلى عراق على حافة المجاعة، ينهشه الملالي من طرف، فيما تتبعثر أطرافه الأخرى بين الأمم.

 

وها نحن في سوريا.. وقد أطلق شرارتها الأولى فتيان، لا يطمحون على ما يزيد عن:

 

ـ حق الهمس.

 

 وربما حقهم في إزالة آذان الجدران، فالبلاد التي لجدرانها آذان هي السجن في عالم مفتوح على الانترنيت وقد انهارت جدرانه.. عالم مفتوح على موسيقى صاخبة، وعلى منتجات العقل الصناعي، وعلى شاشات تقدّم عروضها وليس من اليسير ولا من السهل أن يتابع شبابها ذلك المشهد المثير للدهشة، يوم يرون أقرانهم في أوكرانيا يحمّلون فاسدي الدولة في حاويات الزبالة في مشهد مثير للمحاسبة، فيما تتسلط قوى النهب "الفساد" الإثراء الفاحش على بلادهم، وكل ما عليهم هو كتم الصوت، والتهليل للقائد الرمز، القائد الـ:

 

ـ الصامد كما الجبال، وقد أنعش بصموده طبقة الفاسدين فتحول الفساد في الدولة إلى دولة فاسدة.

 

دولة انغمست طغمتها الحاكمة في مشروع "من يشتري الدولة"، وقد بات ثالوثها وفق الدبلوماسي الفرنسي المخضرم  ميشيل دوكلوس "النظام الرأسمالي المحبب، وأجهزة المخابرات، ونظام السجون"، فانتهكت الطبقة الوسطى، وهاجر الريف إلى المدينة، وانتقلت المدينة إلى عشوائياتها،  ولم يتبق من الدولة سوى الهراوة، فيما اختفت جزرة الإصلاح تحت وابل من أفواه ناهبي البلد، بدءًا من العائلة بأعمامها وأخوالها وسلالاتها، فكانت أن انطلقت الحركة المطلبية التي تبحث عن "منح الحقوق المدنية الأساسية .. السماح بتشكيل الأحزاب السياسية.. توسيع نطاق حق الانتخاب نحو الاقتراع العام، وإنشاء برلمان يكون صوتها.

 

هو ما لم يتقبله (القيصر) السوري كما حال نيكولاس الثاني، فالرجل لن يقبل بـأن يكون (حامل عاطفة) كما حال نيكولاس الثاني، وكان أن انجرف إلى الحديد والنار دون أي احتساب لحدوث مذبحة، وليس أوضح من شعار:

 

ـ الأسد أو نحرق البلد.

 

وكان أن احترقت البلد، حتى أتاها الحريق من كل جانب، بما أنتج:

 

ـ معارضات على شكل النظام ووارثة لمناقبه.

 

ـ متطرفون انتقلوا من سجناء في سجون النظام إلى حلفاء له يستمد منهم مشروعيته فيما يسميه محاربة الإرهاب.

 

ـ تدويل البلد، حتى باتت البلد كعكعة، لا أحد يعرف على وجه اليقين لمن سيكون سمسمها ولمن سيكون سمّها.

 

وانطفأت ثورة الشباب، ليرثها غيلان الإسلاميين، فيما طغمة السلطة تلعب على فتح الأبواب لهم ليكونوا (حظه الطيب) في استدراج البلاد إلى المزيد من الدماء، والمزيد من التغوّل في حياة الناس ومصائرهم، وهي طغمة لم يسبق وأن أنتجت لبلادها سيجموند فرويد، ولا تشيكوفسكي.. حتى هتلر لم يكن بوسعها أن تنتجه، كما الدكتاتوريات الظافرة، ذلك أن هتلر، أقله كان عاشقًا ورسّامًا وقاتلاً، فيما (هتلرها) قاتل فحسب، يتحرك كما بدوافع الآلة.. بحيادية ماكينة القتل وقسوتها، وها هو نصف عقد من الحرب يمضي على البلاد وقد:

 

ـ كتب لها تاريخ جديد.. تاريخ نزوح نصف السكًان، ودمار النصف المتبقي، فيما الخطة الإصلاحية للبلاد لا تلبث أن تكون خطة لإغراق السجون وقد تقاسمتها الطغمة الحاكمة مع أبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي، في دولة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وسكّان لم يتبق لهم نفس، وكل ما عليهم أن يقولوه همسًا:

ـ دعني أتنفس. أسوة بـ "جورج فلويد"، الزنجي الأمريكي الذي قتل على يد الشرطة.

 

ـ دعني أتنفس.

 

هو بالتمام والكمال، ما استدعى لتظاهرات حوران بشقيها (سهل وجبل)، كما هو ما استدعى لتظاهرات إدلب في مواجهة مندوبي الجحيم وقد هتفوا باسم الله، مرة في عفرين، وثانية في إدلب، وفي كل مرة كانوا يعقدون تحالف الدم مع نظام يشبههم، وقد مات العقل في كليهما، كما ماتت، العاطفة.

 

قد يكون مضحكًا أن نقارن ما بين نيكولاس الثاني وطغم بلاد مثل سوريا، وقد يكون مبكّرًا أن نحلم برئيس يذهب إلى قصره الرئاسي على دراجته الهوائية كي لا تنتهك عودام سيارته صفاء المدينة، أو يلتقط صور السيلفي مع مواطنيه كما لو كنا في محيط الدانوب النهر الذي غنينا له.

 

قد يكون مضحكًا أن نبحث عن رئيس من مثل خوسيه موخيكا، ذاك الرجل الذي بوسعك أن تخاطبه بـ:

 

ـ يا جدي فينحني بكل مآثر الجد لأحفاده.

 

ليس مضحكًا أبدًا أن نقول للناس:

 

ـ كفّوا عن طلب الحياة.

 

أن نمنع صرختهم:

 

ـ زيحوا أقدامكم عن رقابنا.

 

درعا.. السويداء.. إدلب، هتفوا:

 

ـ دعونا نتنفس.. ارفعوا بساطيركم عن رقابنا.

 

مجمل المشكلة هي أن هذا النوع من الأباطرة لا يعرف أن غروبه قد بات قاب قوسين أو أدنى.. مجمل تفاصيل المشكلة، أنه لن يحتمل عار التنازل عن تراث أهله في القتل إذا ما تجنب حدوث مذبحة.