من لعبة الدم إلى لعبة الرغيف

 

ها نحن نقف على بوابة الفجائع العارية، والأمر كذلك، نصغي إلى رجل يحمل رغيف خبز ثم ينفجر باكيًا:

 

ـ رغيف واحد لخمسة أفراد.

 

ويكرر كما لو يعطينا علمًا: هذا لا يكفي لخمسة أفراد.

 

الرجل، ليس وحيدًا من بين ملايين السوريين الذين أقفلت في وجوههم أبواب الحياة، حتى أنه لا يخفي حنينيه إلى الحروب.. إلى الدمار النهائي.. الشامل:

 

ـ الخلاص في قنبلة نووية تزيح كل شيء.

 

هذا ما يقوله، بل ما يتمناه في شريط مسجّل نشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

الرجل يسخر من (راحة البال)، وكأنما في هذيانات الجوع  يحمل في جمجمته فلسفة ابن خلدون، أقله حين يلعن الفضيلة ويلوم نفسه على أنه لم يرتكب ما يكفي من الآثام سوى إثم التكاثر "الفضيلة تولد الراحة والراحة تولد الفراغ والعطالة، والعطالة تولد الفوضى والفوضى تؤدي إلى خراب الدول"، كلام لابن خلدون يردده الرجل مع أن بلاده لم تشهد الراحة في الطريق إلى العطالة ومن العطالة إلى الفوضى.

 

إنه من بلد محكوم بالزوال يحمل في أحشائه بذور فنائه.

 

ما دامت الفضيلة قاتلة، إذن فلتكن الحروب، الحروب الصريحة المعلنة، فأي حرب يمكنها أن تكون أكثر دمارًا وقسوة من تلك الليالي الليلاء التي يعيشها هذا الرجل، مع أن الحلول المثالية متوفرة في بلد كما سوريا، حلول مثالية من مثل:

 

ـ الحرب ما بين طائفة وطائفة، في صراع مكتوم قد يتحوّل إلى أبدي.

 

ـ  في الاحتكام إلى تلك المعادلات التي أنتجتها الصواريخ والبراميل المتفجرة.

 

أو كما يشتغل الكثيرون في التوصل إلى تقطيع البلاد على أيدي قطاع الطرق، في لعبة أكبر من السوريين.

 

هي أكبر .. نعم أكبر، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما تنتّفت سوريا في اللعبة الدولية، وقد مدّ النظام بساطه الأحمر لسفراء ممتازين، على هيئة مفوضين سامين، يعبثون بالقصر الجمهوري كما لو كان قصرًا فارغاً سوى من اكسسوارات حريمه، فيما ذهبت معارضات للاستنجاد بالتركي ليعيد مجد السلطنة، فيبعث إلينا رجب الطيب اردوغان بـ(ثوار)، يصولون ويجولون في جراح الناس وأعراضهم، وهم يلوّحون بسواطيرهم.

 

ـ سنكون من الشعوب الميتة، فلنطمئن، ليست حروبنا افضل حالاً من حروب الزواريب وقد فتكت بـ /160/ مليون إنسان حول العالم في القرن العشرين.. لسنا أفضل حالاً من قتلى ثالوث المجاعة، الأوبئة، الحروب، وبلغة الأرقام،  ففي 2012، وحده، مات ما يقرُب من /56/ مليون شخص حول العالم، قضى /620/ ألف منهم في أعمال عنف، نصف مليون منهم بفعل الجرائم. في الوقت ذاته، انتحر حوالي /800/ ألف شخص وتوفي /1.5/ مليون شخص بسبب مرض السُكري، وبذلك يكون السكر أكثر خطورة من البارود.

 

ـ والحال كذلك أهلاً بافتقاد السكّر من البلد.

 

وماذا لو علمنا ودون الكثير من الاندهاش بأن ماكدونالد قد تقتل من البشر أكثر من وباء إيبولا أو الجفاف أو هجمات القاعدة، وكل ذلك من أجل تحقيق ثالوث جديد من الألوهية والسعادة والخلود، لأولئك الذين يشتهون موتنا، وفق ما يقول يوفال نوح هراري، وقد تقاطع مع الانكليزي هوبز بعد أن بشّر ومنذ القرن الثامن عشر بأن البشرية ستبقى وعلى الدوام في حرب "هذه الحرب هي حرب كل واحد ضد الآخر" في الطريق إلى زوال شعوب، والإبقاء على شعوب، في لعبة عنوانها:

 

ـ إنتاج الآلهة.

 

ياللفظاعة أن يكون ماكدونالد أخطر من البارود!!

 

ـ والحال كذلك يالحظنا الطيب وقد حرمنا من لقمة ماكدونالد.

 

مادام الأمر كذلك، فما الذي يحول دون تمجيد الحروب والوقائع تقول أننا وبحركة من إصبع نُقتل بالمجاعة، وبحركة من إصبع نغرق في القاع، وبحركة من إصبع نتحوّل إلى رماد.

 

ـ ألم يرفع دونالد ترامب إصبعه قبل أيام.

 

لنا أن نتخيّل ما الذي أصابنا ما بعد أن لوّح بإصبعه، لا لتخلصينا من بشار الأسد كما يظن البلهاء أو كما يريدون منّا أن نُحسن الظن، فبقاء الاستبداد أو رحيله، ليس بالشأن العظيم عند الرئيس الأمريكي، فالمتابعون للأيام السوداء التي يواجهها سود أمريكا، مازالت تكتم أنفاسنا، لقد احتضر جورج فلويد وهو يكرر الرجاء "أكاد لا أتنفس"، إنها ديكتاتورية وول ستريت، ليست أكثر رحمة من براميل بشار الأسد، فما الذي يدعو وزارة خزانة ترامب لفرض العقوبات على البلد، وكأنما بعقوباتها ستقتلع نظاماً هي من أوجدته، ومازالت خلوة مادلين أولبرايت مع مرشح الرئاسة (بشار الأسد)، سرًا، لايعدو أن يكتشفه سائق طرطيرة سورية، يسعى إلى لقمة عياله دون إعياء نفسه بتلافيف السياسة الدولية.

 

سرّ يقول بملء الفم:

 

ـ أنت رئيس البلاد أيها الصبي الذي يخاف أمه.

 

واليوم؟

 

ها نحن أمام اللحظات الأكثر جنونًا في تاريخ البلد.. فإذا ما أفلتَّ من أنياب النظام فلن تنجو من براثن السياسة الأمريكية، ويخطئ من يظن أن العقوبات ستكون مقتلاً للنظام، تمامًا كما يقين أنها ستفتح مقابر جديدة لأحياء ضاقت بهم الأرض حتى وصل الأمر بالرجل أن يلوّح برغيف واحد مرددًا:

 

ـ لن يكفي عائلتي.

 

عقوبات وحصارين:

 

حصار وزارة الخزينة، وحصار الفساد.

 

وفوقهما ارتهان لصفقات غبية، صفقات مع الإيراني والروسي والتركي، ومليارات البلد، ومال البلد، لو استخدم كما تستدعي أخلاق الذئاب لا أخلاق البشر، لجعل سوريا مدينة فاضلة.

 

لن يكون من السهل، ومهما ارتفعت فينا شاعرية اللغة، أن نردد مع "هوشيه منه":

 

ـ سنحوّل الغبار إلى أرغفه.

 

إنه اللعب بالرغيف، والكل لاعب باستثناء قتلى الجوع.. القتلى مجهولو الأسماء، وقد تكالب عليهم:

 

ـ دونالد ترامب.

 

ـ مافيا بشار الأسد.

 

ومعارضات تسقط في العار، وتتكدس كما أكياس القمامة على بوابة هذه السفارة أو تلك السفارة.