"الملالي".. ذاك الرماد الذي لابد له من السقوط

 

سيكون عالمك الروائي في مساحة هي "المطبخ وغرفة الجلوس، وليس هنالك أية حاجة للمرحاض والحمّام وغرفة النوم في بيت الرواية".

 

هو لا يشكو، هو يحكي عما يتطلبه حرّاس الله في إيران، وهو روائي ربما (فلت) من محددات المكان ووقف على الشرفة.. لا بل تخطّى الشرفة إلى الشارع والزواريب وأعشاش المتمردين فكتب حفنة روايات ربما أبرزها "أصفهان" فبات اسمه أمير "حسن جهل تن"، كتبها مع علمه بأن الكتابة شأن خطير، فها هو ينبئنا بأن  أحد الشعراء اعتقل في ليلة زفافه وسلّم إلى فرقة الإعدام، وأن حافلة انقلبت إلى هوة سحيقة بواحد وعشرين كاتباً، وأن كاتباً اختطف في طريقه إلى السوق ورميت جثته بعد ساعة.. يخبرنا بما هو أكثر من ذلك، فشرط الكتابة كما سلف:

 

ـ المطبخ وغرفة الجلوس فقط، أما النافذة والشارع فلن تنجو إذا ما فكّرت بأن تنال من ضجيجهما، وسيكون الألم أشد ضراوة إذا ما قلت بأن جلال الدين الرومي، هو أعظم شعراء الكلاسيكية في إيران.

 

ـ إذا قلت ذلك، فلذلك معنى واحد.. سيكون مصيرك المحكمة بتهمة الفسق والفجور.

 

كيف سيكون حالك إذا ما روّجت إلى تلك الحكايات وأطلقت عليها صفة (البديعة) من مثل حكايات النبيذ والمعشوقين من الرجال، ثم سردت  قصّة النبي يوسف المثبتة في المصادر الفارسية والتي تقول بأن زليخة زوجة عزيز مصر كانت مستلقية على الأرض عندما نادت على يوسف، فجلس بين ساقيها ومدّ يده على زنّارها، أو عندما جلب إخوة يوسف غير الأشقاء بنيامين إلى يوسف، ومن ثم أمضى يوسف وبنيامين الليل نائمين في فراش واحد وكان يوسف يحضن بنيامين ويتشمم عطره؟

 

ـ يا لهول الحادثة، ويا لهول الكتابة.. لا.. بل يا لهول الخصوبة.

 

وما عليك سوى أن تنسى كلمة (الرقابة)، ففي مصطلحات الثورة الإيرانية الظافرة، ليس ثمة مكان لكلمة رقابة.. كل الأمكنة لهيئة «التفريق بين الخير والشر»، ووحدها هيئة التفريق هذه، تفرّق ما بين المعبودين:

 

ـ لها أن تغيّر معبودك، وأن تصلي لمعبودها، وإذا ما كنت رجلاً يكثر من الترحال والهجرة، فعليك أن تغيّر حياتك ولابأس إذا ما تحوّلت إلى جسد عجوز، مثقل، متيبس وبارد، تقتات على خبز غير مباع، وإذا ما أعوزتك الحيلة فلمن ستشكو أمرك؟

 

يحكي لنا العفيف الأخضر، عن حكومة الله، ثم يسرد حادثة وقعت لكاتب مصري:

 

ـ يسأل الكاتب المصري صديقه الكاتب الإيراني:

 

ـ ما الحال ما بعد انتصار الثورة؟

 

يجيبه صديقة الإيراني:

 

ـ زمن الشاه، كنا نشكو طغيان الشاه إلى الله.. لمن نشكو أمرنا اليوم وقد بتنا في ظل أولياء الله؟

 

إجابة مربكة، غير أن العفيف، يقرأ بدّقة المؤرخ هزيمة الله في بلد أولياء الله، فالثورة الإيرانية، (كأول ثورة ظافرة في تاريخ الإسلام السياسي الحديث.. هكذا وصفها العفيف) يوم انتصارها :

 

ـ أسلمت المناهج الدراسية.

 

ـ طردت حوالي 40 ألف مدرس وجامعي من المشكوك في ولائهم للمشروع الإسلامي.

 

ـ أوقفت إرسال البعثات للجامعات الغربية ومنعت الطلبة من الالتحاق بها.

 

ـ و"حرصاً على الفضيلة"، ألغت الاختلاط بين الجنسين في المدارس والجامعات.

 

وفرضت على النساء اللون الأسود كحداد دائم على الأئمة، وعلى غيبة الإمام الـ 12، ورجمت حوالي ألفي امرأة من النساء الزناة.

 

ثم محت الثورة عصر عازفي "البوب" وقد اختلطت موسيقاهم بالموسيقى الإيرانية القديمة فكان أن محت الثورة تلك الفاتنة، المغنية "دلكش"، التي راحت تغني مرتدية فساتين ضيقة، وتحمل بيدها كأساً من الكحول، كما محت كل آثار "قمر الملوك وزيري" الملقبة بـ"كوكب الموسيقى الإيرانية"،  وقايضتها باللطميات.

 

كان على ميليشيا الثورة، أن تغنّي للأحكام الشرعية لتؤثث بيت الإسلام، فمنعت الصحافة الغربية وكذلك الأطباق اللاقطة لمنع مشاهدة الفضائيات العالمية، وحظرت استيراد الأفلام الأجنبية، وبالمثل منعت الاختلاط بالمدارس والجامعات.

 

ـ كان على السماء أن تنتصر على الأرض، وعلى المهدي الغائب أن يعود على وقع جماجم الناس، فالله في الإسلام الخميني، لابد وأن يكون بشعر مستعار، وعينين مستعارتين، وقلب مستعار، وإذا ما أحسن القراءة، فلابد وأن يكون إله القتل، وعلى هذا (الله) أن ينصر الإسلام والمسلمين، ومتى وأين؟

 

ـ في عالم الجنرال حداثة.. والطيران، حيث سيكون بوسع المغنية سپیده افشار التحليق بعيداً إلى كاليفورنيا، لتكون من سيّدات القلب، وقد خرجت من سطوة هيئة "التفريق بين الخير والشر"، وقد ارتدت التنورة المرتفعة، وأعلنت ساقيها الفضيين لعموم الناس، دون ألف جلدة وقد أوسعها جمهورها بالقبلات.

 

وكان على إسلام الخميني أن ينتصر، وكان على الإيروسية الإيرانية الممتلئة بالفرح، أن تتحول إلى كآبة مفزعة.. غير أن ما كان، هو أن تحولت إيران إلى إيرانين:

 

ـ إيران الملالي.

 

وإيران الكتابة الخطرة والوقوف على الشرفة خارج المطبخ وغرفة النوم، وكان علينا أن نستهدي بما كتبه العفيف.. نستهدي المعلومة.. بالأرقام، وبحيادية الأرقام:

 

ـ قبل منع الاختلاط في المدارس والجامعات كان الشباب المدرسي والجامعي لا يمارس الجنس إلا بعد ثلاثة شهور من التعارف في المتوسط. أما بعد منع الاختلاط فأصبح يمارسه منذ اللقاء الأول.

 

ـ في عهد الشاه كان معدل البغاء في إيران أقل بكثير من المعدلات العالمية. أما بعد فرض الحدود الشرعية العتيقة فقد تحولت إيران، بشهادة صحافتها، إلى ماخور بلا جدران تُمارس فيه كل ألوان "الرذيلة" تحت سمع وبصر ميلشيات "الفضيلة"!

 

ـ يرفض سائقو التاكسي التوقف لنقل رجال الدين، ومنذ سنة 1990 لم يعد اسما علي والحسين شائعين بين المواليد الجدد. فقد عُوضا باسمين وثنيين : داريوش [اسم لملوك الأسرة الإخمينية] وأراش [البطل الأسطوري الذي رسم حدود إيران بأربع حجرات رماها في الاتجاهات الأربعة].

 

أكثر من ذلك وحسب معطيات العفيف، أجرت المستشرقة الفرنسية ، مارتين غوزلان، تحقيقاً عن الثورة الإسلامية نشرته الأسبوعية الفرنسية "ماريان" عنوانه الفرعي "30 عاماً من الثورة الإسلامية: 30% من الملحدين"! النسبة هائلة في مجتمع إسلامي شبه تقليدي خاصة، إذا علمنا أن 25% فقط من الأوربيين يقولون أنهم لا دين لهم و6% فقط يقولون أنهم "ملحدون مقتنعون".

 

ثم تتساءل الفرنسية مارتين غوزلان:

 

. ألا يحق لرئيس "اتحاد الملحدين بفرنسا" أن يصرخ مبتهجاً: "مرحباً بالثورة الإسلامية حتى في فرنسا" حيث نسبة الملحدين أقل بكثير منها في الجمهورية الإسلامية!

 

آلهة القتل، ليست تحتكر القتل فحسب، لقد صنعت للقتلى أجنحة، وها هو عازف في فرقة "سه رنج"  وأظنه عازف الجيتار ماهان ميرا يقول:

 

ـ أرادوا أن يهدونا رصاصة وهم يشاهدوننا ونحن نسقط إلى الأرض.. لا، إننا نطير وذراعانا مفتوحتان.

 

أظن أن بلاداً معلّقة في الغيب، لابد وأن لها ناساً يعرفون بالتمام والكمال سكة القطار.. في هذه اللحظات، ها أنذا أصغي إلى أولئك الموسيقيين الإيرانيين السعداء الذين لا يمكن زعزعة سعادتهم، أولئك العصيين على  الخوف من الموت وهم ينتزعون الأقنعة الإلهية لحساب الله.

 

ـ الموسيقى ليست من عمل الشيطان.

 

هذا ما يقوله موسيقيو (تحت الأرض).. اسألوا "سالومة" الإيرانية، بل أصغوا إلى موسيقاها.

 

مع موسيقاها لا بد وأن تردّد:

 

ـ لقد خلقت الحياة توّاً.

 

دون أدنى شك، موسيقى تؤجل ظهور المهدي، فالخلاص في مكان آخر، هو غير ما اختاره الملالي أولئك الرماد الذي لا بد ويتساقط ما بعد ظهور البركان.