إذا كان لنا أن نتصور أن روسيا ستنسحب من سوريا، قد يصح ذلك، أقله حين نظن بأنها ستنسحب من بلاد خالية من البشر.. لوّح فلاديمير بوتين بذلك وكان في نهاية 2017 وإلى جانبه أهم وزيرين لديه، وهما وزير الخارجية، سيرغي لافروف، ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، وانشغلت كبريات الصحف بما لوّح به بوتين، ولم ينس كتّاب الأعمدة اختيار عناوين لمقالاتهم:
ـ بوتين سينسحب من الصداع السوري.
وبلا أدنى شك، فإن بشار الأسد يمثل صداعاً، لا لحلفائه فحسب، بل لكل من عرفه، فالرجل:
ـ عنيد ومحدود الأفق، وثمة صفات أخرى تندرج في وصفه، ليس أكثرها قسوة وصفه بـ :
ـ تلميذ لا يعرف كيف يجتهد (وكان هذا ما وصفه به الرئيس الراحل حسني مبارك).
غير أن بوتين لم ينسحب، مع أنّ الصحافة الروسية ذهبت للقول بأن الكرملين استنزف كامل قواه المخصصة لسوريا، فيما ذهب آخرون للقول بأن روسيا "لا تغادر مكاناً تقول إنها انسحبت منه".
القائلون بذلك، اعتمدوا التاريخ، وأي تاريخ؟
التاريخ الذي يقع على مرمى أصابعهم، وكان عليهم تكرار السؤال:
ـ من أين انسحبت روسيا خلال التاريخ القريب؟
لم يكن لروسيا أي وجود في شرقي أوكرانيا، إلا أن جيش "نوفوروسيا" أو (روسيا الجديدة)، الذي أنشأه الانفصاليون الموالون لروسيا في شرق أوكرانيا، يضم في صفوفه اليوم 80 ألف عسكري، ويمتلك أسحلة ثقيلة كالدبابات والمدافع.
ويقول الخبراء إن من غير الممكن أن يصل الانفصاليون إلى هذا القدر من القوة في تلك الفترة القصيرة دون الحصول على دعم، في حين تصر روسيا حتى وقتنا الحالي، على عدم تواجدها عسكرياً في أوكرانيا.
هذا مثال، والمثال الموصوف بـ (الجيد) كان في جورجيا، إذ أن الروس الذين انسحبوا من جورجيا قبل عام 2008، بناء على طلب رئيسها آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي، عادوا واحتلوها عام 2008، مع الحرب التي اشتعلت في أوسيتيا الجنوبية.
وسبق لروسيا أن انسحبت مرتين من الشيشان، ففي عام 1992، سلم الروس قواعدهم إلى الشيشانيين وانسحبوا، وفقاً لاتفاقية عقدوها مع رئيس جمهورية الشيشان إشكيريا آنذاك، جوهر دوداييف، إلا أن روسيا عادت إلى احتلال الشيشان ثانية بعد عامين، ونتيجة للخسائر الكبيرة التي لحقت بها في الحرب، اضطرت للانسحاب مرة أخرى من الشيشان عام 1996، مع الإبقاء على قاعدة عسكرية لها في العاصمة غروزني.
وفي عام 1999 قامت روسيا بإخلاء قاعدتها العسكرية، ومن ثم احتلت الشيشان مرة أخرى. وحالياً فإن الوجود الروسي العسكري الأكبر في شمال القوقاز، يتمركز في الشيشان.
إنها استراتيجية إمبراطورية الظل التي تعتزمها موسكو، وليس بيننا من ينسى سطوة الرئيس بوتين، وهو يبحث عن حلفاء، كل ميزتهم التبعية الصمّاء والخواء الفلسفي الذي لا حدود له، وليس من مثال أكثر وضوحاً من بشار الأسد، ونظنه كان مشهداً كئيباً لرئيس سوري وهو يمشي حافي القدمين وراء المايسترو في قاعدة حميميم العسكرية، وقد تحوّل الرئيس السوري إلى ركام على ضريح سوريا.
المسألة ستتعدى وجود جنود وشرطة عسكرية تتجول في الأزقة السورية، بل وستتعدى قاعدة عسكرية، كما ستتعدى التنقيب عن غاز المتوسط، فالرئيس بوتين، ليس حارس خزانة يبحث عن رفع قيمة (الروبل).. إنه وفي العمق غريغوري يافيموفيتش راسبوتين وقد تسلل من الكي جي بي إلى الكرملين، دون أن يكون فلاّحاً ماكراً يتدحرج فوق سرير نساء رومانوف وبنات القيصر.
هو القيصر.. هكذا يرى الرجل نفسه، وربما هكذا تراه حاشيته، وعلى القيصر أن يخيط المشنقة لمن يخرج عن طاعته، وليس بشار الأسد بمنجاة من أنشوطة القيصر، بما في ذلك أنشوطة المال المخزّن عبره وذويه وشركاته ومحاسبيه في موسكو، وسيكون من بالغ الحماقة القول بـ :
ـ سنحرق بوتين برمال الجزيرة السورية، أو نطعمه للسمك، وفق ما كتب واحد من فُتاة مائدة السلطة في سوريا وليس من طبّاخيها، دون أن ننسى أنه كتب بجرأة ربما تكون حصرية بالوقحين ممن يقرأون السياسة باعتبارها قضية رغبة.
مع بوتين، لنا أن نتوقع كل ما لا يمكن توقعه، فقد تعثر في جمجمته على "أبو بكر البغداي" إن شئت، وقد تعثر على "وول ستريت" بكامل أناقته.
ـ لم لا يكون له المال السوري، وقد وضع قدميه على القصر السوري بما يملك؟
ولنا أن نتخيل حجم الأرصدة السورية المدفونة في موسكو، ولنا أن نتخيل، حجم الصراع الدائر في سوريا اليوم ما بين السلطة والشركة، دون نسيان ما تحدثه همسات الحرملك على صراع انكشف، ولم يكن بالوسع التستر عليه وقد بات بين أيدي قطاع الطرق.
ـ المال السوري؟
المال الغبي، والدور الغبي وقد انتزع من بطون جائعة، ومن حصاد عمر بلد سيمتد لسبعة آلاف عام مخزّناً في الخزنة الروسية، ومصيره لابد ويذكّر بمصائر طبقة الأثرياء الجدد أمثال سيرغي بوغاتشييف، وزوجته الكونتيسة الكسندرا تولستوي، التي تربطها صلة دم بالروائي العظيم ليو تولستوي الذي تحمل اسمه، وقد سطا بوتين على مدّخراتهما البالغة 16 مليار دولار.
تقول الكسندرا:" "كانت لدينا مرافقة، سائقان وعاملتا منزل، ومربية إنجليزية ومربية روسية بالإضافة إلى مدرس فرنسي للإشراف على تعليم الأطفال".
وتقول: "كان يعطيني بطاقته المصرفية وأذهب للتسوق، وكنت أفعل ما شئت". كانت لدي طائرة خاصة. كان علي فقط أن أحزم حقيبتي وأستقلها متى شئت".
ويقول سيرغي إنه كان مقرباً من الرئيس الروسي. كانا يخرجان في عطلات سوية "طوال الوقت" وبات يلقب بـ "مصرفي بوتين" بعد منحه قرضاً للحكومة الروسية.
ثم وقعت الواقعة، فلقد أصدر بوتين قانوناً يمنح عملاءه الإذن بقتل "أعداء الدولة" في الخارج ولم يمر وقت طويل قبل أن يتحول انتباه روسيا إلى سيرغي بوغاتشييف وملياراته.
ويشرح بوغاتشييف ذلك: "دعوني إلى أحد المطاعم. قالوا لي :"حسناً، يجب أن تدفع 350 مليون دولار وإلا سنقتلك أنت أو عائلتك. إذا أردت، بمقدورنا قطع إصبع ابنك وإرسالها إليك".
مات بوغاتشييف بعد ثلاث ساعات من دخول السجن.
ولنا أن نتخيل مصير المال السوري، وما الذي يعنيه أن تفتح موسكو عينيها على رؤوس الأموال (العائلية) المخبأة في روسيا.. الأموال الهاربة من بلد يعاني سكانه من الفقر والإهمال والتشريد، وسط صرخات خال العائلة وقد امتدت اليد الروسية ليس إلى ماله في موسكو حتى اللحظة، بل وبرفقة القوات السورية كانت القوات الروسية تضع يديها على مدراء وتقنيي "سيرتيل" وقد شملت عاملين في دمشق واللاذقية وحمص، كما شملت الحملة الأمنية اعتقال موظفين في جمعية البستان التابعة لابن الخال، وذلك في إطار الضغط الروسي عليه. دون نسيان الخطوة اللاحقة والمتوقعة ما بين ليل وصباحه، وتقضي الخطوة اللاحقة بوضع عقوبات أو حجز على الأموال التي يملكها هو وعائلته ليطال الأمر الشركات الكبرى التي تمتلكها العائلة في روسيا أيضاً.
مليارات الدولارات، كان بوسعها أن تجعل من سوريا "الدولة الفاضلة"، غير أنها أحالت سوريا إلى رمال ومقابر، ليكون غدها ربما أكثر جنوناً.. أكثر حيرة وأكثر جوعاً.
الآن دقت ساعة التدخل الروسي في سوريا .. ما قبلها تفاصيل، وما بعدها ستكون أقفية الأسد والخال وابن الخال عارية في مهب الريح.
ـ نعم سيكون صيفاً حاراً يستلزم خلع الملابس وهي تشتعل بأصحابها.
ـ الروس باتوا يلعبونها، قد يكون عنوان اللعبة: