البحث عن أحمر الشفاه

 

لم تتخوف أنظمة الديكتاتور الأعظم من "الحزب الشيوعي" برايته الحمراء وأمينه العام وقد أورث الأمانة إلى الزوجة ومن ثم الابن، ولم تتخوف من النقابات المصنوعة على شاكلتها حيث يحجز قياديوها ساونا الميريديان لتفريك أصابع أقدامهم ومحو آثار البروليتاريا عنها، ولم تتخوف من المساجد حيث الخطباء يصرفون الكثير من الوقت على فقه الدورة الشهرية للمرأة واغتسال الرجال ليكون الوضوء، ولم تتخوف من الإخوان المسلمين.. الإخوان الأشقاء المنسوجين من النول إياه، نول الدكتاتوريات.. لقد بالغت بتخوفها من الهيبيز أولئك القادمين مع حشيشهم وملابسهم الفضفاضة وموسيقاهم المتحررة من النوتة وطاردتهم في الزواريب والأعشاش.

 

واحد منهم يقول لي: "لن أنسى بسطار الشرطي وهو يمسح وجهي، وصاحبه يردد: "يا عبدة الشيطان".

 

عبدة شيطان؟

 

نعم، كانت تلك تهمته، فعبدة الإله هم أولئك الذين يبيتون في الفنادق، وينتظمون في ميليشيات سرايا الدفاع، ولا يرتدون الألوان المبهجة.. أولئك الذين يمنعون عن طلبة الطب دراسة الدماغ البشري عبر جماجم بشرية حقيقية، فيما يثابرون على قطع رؤوس الأحياء بمناجل الوطن السعيد.

يقول ذلك ثم يتنفس كما لو يعود إلى ارتداء الأمس:

 

ـ أقر بأنني أعود اليوم لاستعادة العظام القديمة.. عظامي وقد خبّأتها في زنزانة جسدي.. أستعيدها اليوم وأنا أستلقي بكل الحرية في محطة القطار وإلى جانبي بنت امتلأت بالوشوم والألوان، ومعاً نراقص بوب ديلن وجوان بيز، اسمعهم.. أرجوك افعل ذلك فأنت منهم، أخرج عظامك من الزنزانة لو سمحت.

 

كل ما عليك أن تتنبأه:

 

ـ يا لعظامي.. من سيحييها وقد باتت رميماً؟

 

لكن الحقيقة أنهم ومنذ أن استلموا البلاد، كان شعارهم:

 

ـ نبقى أو لا تبقى البلاد.

 

وكان عليهم أن لا يسمحوا لنا بإحياء العظام وهي رميم.

 

وكانوا في تداعياتهم قد تطوروا إلى:

 

ـ الأسد أو نحرق البلد.

 

وقد كان لهم ما أرادوا فقد احترق البلد، وقبل احتراقه بخمسين عاماً، احترقت تلك الثياب الفضفاضة التي كسرت النمطية الاجتماعية والجندرية، كما احترقت تلك الشعور الطويلة وتحولت التنانير الفضفاضة والمصنوعة يدوياً، إلى بذلات للحرس القومي (تخيّلوا حرساً قومياً)، وباتت الموسيقى مع تحوّلاتهم التي أحدثوها قد اتخذت شعارها:

 

ـ كل شيء للوطن.

 

ليكون المارش العسكري.. وحده المارش العسكري بفرقته النحّاسية التي تنبئ بالموت وتعزف نشيد الموت وتؤصل للموت وتتغنى بالموت وتشيد للموت نصباً أطلق عليه الجندي المجهول، ومع ذاك المجهول  تلك الأمثولة الخالدة للزعيم الخالد:

 

ـ النصر أو الشهادة

 

ما يعني: الموت.

 

موت من يستحق الموت، ونعني به هنا، ذاك الإنسان الذي فضّل السعادة ودعي إلى اللاعنف والسلام، ومعه كان على الخيّاطين أن يتوقفوا عن الإكثار من الزهور على فساتين البنات، وكان على الفتيات نزع القلادات المصنوعة يدوياً من أعناقهن، كما كان عليهن خلع الأجراس عن خلاخيل أقدامهن تبجيلاً لصمت القائد الذي لا يكثر من الكلام حتى بدت خطبه كما شاحنات تقل الموتى إلى حيث النهايات السعيدة للوطن السعيد، وكان على الجامعات أن تتوقف عن استيلاد الشباب فالكل كهول.. كهول تحت الطلب، وعلى بوابات الجامعات دشم حربية ومسلحون فيما اتحاد طلبتهم يهوّل من الخطر العظيم للموسيقى، خصوصاً منها تلك الموسيقى عالية الصوت.

 

ـ لقد وحّدوا الملابس الجامعية.

 

لون واحد، وقماش واحد، وخيّاط واحد، وقبّعة عسكرية تضغط على الجمجمة.. قبعة تحرس الجمجمة وتغلق كل نوافذها، أما عن البنات فالثقافة الثورية على التضاد من أحمر الشفاه.. على البنات الالتحاق بسرايا الدفاع، وسوى ذلك فأنتم جيل الهيبيز، وأنتم تبيحون الجسد، وأنتم تجدفون بالله، والله هو:

 

ـ  القائد.

 

والقائد هو الله الذي  لا يحبذ أحمر الشفاه.

 

نعم الله هو القائد وكان لابد من التفريق ما بين الله الذي يقوم بأفعاله بمعزل عن الإنسان ولا يفعل ذلك أبداً، وبين الله الذي يدمركم ويفعل ذلك على الدوام.. ما بين الله الذي يشبهكم، وبين الله الذي ستدخلون مجاهل السجون والأقبية إن لم تتشبهوا به.

 

كان عليكم أن لا تكونوا الله الخلاّق.. كان عليكم أن تكونوا  ذاك الله الذي لم يستبدل ستائره ولا لون بذلته، ولا ضحكته، حتى بات أشبه بالمومياء.

 

الله الجلاّد.. كان عليه أن يكون مثالكم، ومن أجله:

 

ـ أجّلوا الموسيقى.. أجّلوا الرحلات.. أجّلوا تقبيل بعضكم بعضاً في كوريدورات الجامعات، ومن أجله لابأس إن تعممت الدعارة حتى باتت فعلاً فضيلاً، فيما الحب هو الفعل الشائن مصحوباً بفقهاء يعتلون المساجد، ليلتقي السلطان بالفقيه فيقتفيا أثر شباب كل ذنوبهم تختصر بأنهم شباب.

 

ويقول لك:

 

ـ استعد عظامك، ذاك المغني يشبهك.

 

ومن أين لي عظاماً لأستعيدها وأنا في غرفة التذكر وأمامي السؤال الكارثي:

 

ـ ما الذي أبقي منا؟

 

دكتاتورية سياسية، ودكتاتوريات دينية، والوحل يطال كل الرؤوس والكل يذهب إلى تلطيخك بالدماء؟

 

دماء في متفجرات متنقلة، ودماء في لغات متنقلة، ودماء على الأيادي التي لم تخلع قفازاتها بعد؟

 

من أين لك أن تتذكر، وما حال الذاكرة حين تكون البلاد عابرة من الوحل إلى الوحل؟

 

من وحل الإله القائد، ولم يمنح من ألوهيته سوى السجون، وآلهة اللحظة وقد باتوا يعيدون إله الأمس وبسجون أكثر فظاعة مما أورثتهم سجون الإله؟

 

 

من أين لك أن تتذكر حين تلغى حتى ذاكرتك المشتهاة؟

 

ومن أين لك أن تتذكر وأنت تتأرجح ما بين هولاكو العثماني وهولاكو البعثي، لتكون حياتك متأرجحة ما بين الرؤى وتعديل الرؤى وانعدامها في كل حين؟

 

هو الميراث الصعب، والآتي الصعب، واللحظة التي لا تتوقف سوى أمام أضرحة الفتيان المقتولين.

 

حتى الأضرحة لا تسعف الذاكرة.

 

يا لأحمر الشفاه كم بات مؤجلاً في حقول الدماء.