هذه الحرب ستقود إلى ما بعدها، وما بعدها لن يكون أقل قسوة مما أوقعته من ضحايا.. ضحايا لم تتجاوز أعدادهم حتى اللحظة:
ـ حرب زقاق أو حروب العصابات.
بل لم تتجاوز في عدد ضحاياها، ضحايا الحرب على الرغيف.. الغذاء الفاسد، الماء الفاسد، الهواء الفاسد، وبالقطع لم تصل ولن يصل عدد ضحاياها إلى عدد ضحايا الأنظمة الفاسدة بزنازينها وهراواتها.
مع شحّة أعداد قتلاها، فهي حرب، ازدهرت معها تجارة التوابيت، فقد شهدت شركات "خدمة الجنازة" في بلجيكا رواجًا كبيرًا في صناعة التوابيت فيما تسبب ارتفاع أعداد الوفيات في مدينة غواياكيل في الاكوادر بنقص في التوابيت مادفع السكان الى استخدام صناديق الورق المقوّى فلاوجود لتوابيت في هذه المدينة أو انها باهضة الثمن، أما في شمال شرقي فرنسا، فصنّاع التوابيت يكابدون لتلبية الطلبات والوفاء بتوابيت من خشب البلوط والصنوبر ويعدون زبائنهم بزيادة الانتاج، أقله بخمسين تابوت يوميًا.
ـ وسيبقى الهنود متفوقين على سواهم، وكذلك اليابانيين، ولنقل:"سيبقى الهندوس خارج حسابات التوابيت..كل ما يلزمهم علب منقوش عليها اسم الميت، وربما نبذة مبسّطة عن حياته، ثم يقدّمونها لذريتة برماد ميتهم".
هكذا يبدو الحال، مادام الداء دمويًا يتراوح بين الخرافة والأسطورة، وهو حال لابد سينكره الغد، ولابد سيختفي عن الشاشات.
ـ هي حرب لابد منها؟
قد يكون الامر كذلك، وها نحن نصغي معها إلى أصوات تفيدنا بأن ما قبلها هو غير ما بعدها،
وعلينا أن نتساءل عمّا بعدها:
ـ هل سيعود الإنسان فلاّحًا يخزّن مؤونته الشتوية من حصاد صيفه؟
ـ هل ستغادر البشرية سينما هوليوود، حيث الجنس والجريمة ومن ثم صرخة البطل؟
ـ هل ستزدهر تجارة العقارات؟
وهل سيخرجنا أولئك الحكماء من ظلمة العقل نحن الناس السذّج؟
ولا ندري إن ستعود آنا كارنينا ما بعد موت الوباء إلى رمي نفسها تحت عجلات القطار، فيما نكافح نحن لندفع الموت عنّا، بعد أن ندفع لشركات التأمين تأمينًا على حياتنا.
لاندري كذلك ما الذي ستؤسس له هذه الحرب من ملحقات، وبما سيكون عليه شكل الإنسان فيما بعدها، بعد مافرضته عليه من اشتراطات.. اشتراطات تتعلق بـ :
ـ العناق.
ـ لقاء الجار بالجار.
ـ تبادل التحيات بالأيدي.
واللقاءات الماجنة لمراهقين يعملون على إطلاق ضحكاتهم في فضاءات مفتوحة خارج الحجر الصحي.
هي حرب لابد منها، وليس بوسعنا التنبؤ نحو أي مسار ستسير:
ـ هل ستنتهي إلى عودة الإنسان إلى تقدير الانتاج البضاعي بوصفه كمّا من الحليب، كمشة من محصول القمح، ذراعًا من القطن المنسوج، آنية خشبية مصنوعة بيد خبيرة، أم ستنتهي بتحويل كل ما يمشي على وجه هذه الأرض إلى كائن افتراضي؟
ـ الإنسان كائن افتراضي.. الغذاء كائن افتراضي.. الثروة كائنات افتراضية؟
والتحكم لابد سيكون للأيدي المجهولة التي تسيّر هذا العالم، وتحكم هذا العالم، وتتصرف بموارد هذا العالم بما فيه الأجنّة باعتبارهم موردًا من الموارد لا كائنات تسبح في أرحام الأمهات، محمّلين بوعد، هو الاسترسال الطبيعي لكائن ولد من مليارات السنين ومازال يتكاثر، باعتباره سيّدًا على هذا الكوكب.
ـ سيّدً، يحارب فيقتل أو يقتل.
ـ ينتج فيطعم.
ـ يُستعمَر، فيُنهب.
ينام، فيتخيل العالم على غير ماهو، وهو متلحف بثياب السرير.
ـ كيف سيكون هذا العالم؟
لابد وأنها عملية صراعية بالغة التكلفة، وقد اعتاد الإنسان على تغيير حياته، ربما كل مائة سنة، وربما مع التحوّلات البشرية الكبرى .. اعتاد على تغيير معتقداته، سلوكه، اولوياته، وعلى الدوام بأثمان بالغة التكلفة وانظروا الى تلك الحروب الفتاكة.. الحروب التي ابتدأت منذ تحويل الحجارة إلى سهام قاتلة، وصولاً للحرب النووية التي لم تقع بعد، غير أنها حرب تقف على بوابة البشرية بانتظار أن تؤمر لتطيع، وبعدها لن يحتمل الأمر ما هو اكثر من ضغط على الزر لينفجر الكوكب بمن فيه، ومن بعده ستكون ولادات جديدة، لابد وأنها ولادات مشوهة، ملحقة بكل هذه التشوهات التي خلقها الإنسان بعد سلسلة من الثورات، لن تكون آخرها ثورة الاتصالات والحواسيب واللعبة الخوارزمية والسحر الرقمي والذكاء الصناعي، وقد بتنا أمام محصّلة عالم لن يعوزه أن يلتقط حرارة جسدك، ونوع ضحكتك، وكمية الجوع في صدرك، ومدى قوّة قبضة يدك، بل قد يحدد لك في لحظة ما، كمية الموت التي وقعت على حياتك، وكمّ النجاة الذي حصدته ما بعد موتك، وكلّها وقائع، إن لم تكن قد حصلت فلاريب بأنها قابلة لأن تقع وسط صراعات بشرية، بقدر ما هي بالغة التعقيد، هي بالغة التبسيط، حتى تخال أن الأسئلة الصعبة، لامكان لها في هذه الفجوات البشرية التي بت من مواليدها، كأن تكون أسئلتك من حجم:
ـ من سيرث هذا العالم، وأي من القوى العظمى ستكون قوى صاعدة، وأي منها سيتنحى وأي منها سيسود؟ وها أنت على يقين، من أنه أيّ كان المنتصر فيها، لابد وأن يكون منتصرًا عليك.
ـ ينتصر اقتصاد السوق؟ لن تكون سوى لعبة لقوى السوق.. ثمرة مهترئة لابد وأن تسقط عن غصنه.
ـ تنتصر دولة الطغيان، ولن تكون فيها سوى سجين أو جلاّد.
وبالنتيجة، لن يكون لك سوى خيار واحد:
ـ الله ينصر من ينتصر.
لا إيمانًا منك بجدوى انتصاره.. عدالة انتصاره.. شرف انتصاره، بل لتؤكد عجزك أنت.. عجزك الذي لايعني بالنسبة لك سوى أن تردد:
ـ الله ينصر من انتصر.
ذلك أن انتصارك أنت في مكان آخر.. في المكان اللامرئي.. في اللاممكن.. بل في المستحيل.
ـ وأي ممكن إذا ماتحوّل الكوكب كل الكوكب إلى ماهو عليه:
ـ صراع على الثروة.. احتكار الحكم.. احتكار السلاح والقوة، ودلق مئات اطنان الحليب في بواليع المدينة، نظرًا لقيم السوق التي تفرض رفع سعره.
سنذهب إلى المستقبل.. سيحدث ذلك، ومعه سنذهب إلى:
ـ إدارة عالم لاتعرف على وجه التحديد شكلها، ناسها، قواها، أغراضها، وما أن تعرف حتى تكون المعرفة قد باتت قديمة.. معرفة في غير توقيتها.. معرفة لاتعني شيئًا، كما الدواء في غير أوانه، وهانحن اليوم نتساءل:
ـ من منّا كان يعرف الحقيقة الحقيقية لاجتماع روزفلت / ستالين/ تشرشل وقد انتصروا على الساموراي وعلى هتلر؟
من منا كان يعرف الحقيقة الحقيقية لإنشاء هيئة الأمم المتحدة؟ مجلس الأمن الدولي؟ تقسيم العالم على ما بات عليه؟ ومن منا كان يعلم أن كولن باول لم يكن متحققًا من أن صدّام حسين لم يكن يمتلك سلاحًا نووياً وأن كل ما امتلكه مدفعًا عملاقًا لايصل حتى لشحمة أذنه؟
هانحن نعلم، وكولن باول يعلم، وحين تسأله المذيعة إن كان يعلم في آنها او إن لم يكن يعلم، فكل ماكان لديه من جواب:
ـ أنها قصة تطاردني في المنام.
غير أن مالم يعلمه أن العراق دمّر على رأس أصحابه بعد أن احتل الشاشة، وهاهو اليوم يخرج من الشاشة.
كلها أسئلة لن تكون بالغة الحيوية، فالسؤال الأبسط والأجدر بالاحترام:
ـ هل ستسعيد البقرة مكانتها؟ أم ستستمر علبة من منتجات الانتاج الغذائي، من بين سلسلة من العلب، على خطوط انتاج لاتهدأ ولا تتوقف عن ذبح الأبقار؟
ـ سيكون سؤالك اللاحق:
ـ لو سألت طفلي ماهي البقرة؟
أنت تعلم، وبكل اليقين، أنه لايعرف عن البقرة سوى أنها كائن في علبة.. نعم في علبة تختلف تسمياتها.
ولكنها لن تتجاوز في أعذب معانيها تسمية:
ـ مرتديلا.
وستتساءل مع المتسائلين:
ـ ولكنها الحرب.
وستعلم علم اليقين، أنه ما من حرب وقعت في هذا الكوكب إلا وكانت على الضد منك، وفوق ذلك سيكون عليها إعادة تأهيلك العقائدي، فالأحداث الكبرى قد تتطلب منك القطع مع الماضي، غير أنك مع أي ماض ستنقطع:
ـ مع سوق البورصة؟
ـ مع سباق التسلح؟
ـ مع مداخن المصانع التي تملأ رئتيك بعوادمها؟
ـ عن ماضي الشركات الكبرى التي تصنّع للمرأة بنطالها حتى تبقي نساء الأرض كل الأرض متساويات في التقاط الصور التذكارية، وقد حرمت المرأة من صناعة فستانها الذي تشاء، وفق تضاريسها التي شاءتها لها أقدارها؟
ـ عن ماضي البيوت التي لاتشبهنا، والجدران التي لاتشبهنا، والمطابخ التي لاتشبهنا، وسكاكينها التي تنغرز في أجسادنا حين تضيع اللقمة من أيدينا؟
ستقطع مع الماضي؟
نعم ستقطع مع الماضي.. مئات التجارب، وربما لعشرات السنين حتى استطاع علم التدجين تحويل الكلب البري إلى كلبي منزلي.. كلب يرضخ للتعاليم، يلف ساقًا على ساق ويرقص رقصة العجّانة.
في شهر واحد استطاع إعلام كورونا تحويل البشرية إلى كلاب منزليين.
ـ كلاب تعوزها موهبة رقصة العجّانة، ولكنها تقطع مع الماضي.
ولكن كيف ستقطع معه؟
هو السؤال، غير أنه (الماضي)، وقح، وجلّاد وجلف ولن يخرج منك كما تشاء.
ستغادر الماضي.. أي نعم، ولكنك لن تغادر محتكري الخبز.. الدواء.. القرار.
ـ بل ولن تغادر العقائد، أقلّه تلك العقائد التي صاغتك على نحو يحارب الوباء بالتهام تربة الميت، او بذلك الخليط الفظيع من الزعفران الممزوج باليانسون، فيما شركات الدواء تبحث عن لقاحك.
ـ ستغادر الماضي، لا لينفصل المفترس عن الفريسة.
سيبقى المفترس، وستبقى أنت الفريسة.
ـ غادره إن شئت.. إن كان بوسعك مغادرته.