شاي الباب العالي

 

نبيل الملحم

 

 

في الصقيع تحتضن جسدك، تلفه بكامل ذراعيك، ربما لتتعرف عليه بعد أن غُيّبت عنه، ومع انهمار القنابل يحدث أن تخطفه إلى حيث لا تصيبه أهوال الموت.

 

تصبحان اثنين:

 

ـ واحد برعاية الآخر، تمارس الوصاية (عليك) كما الجدّات.. معه تصبح أنت جدتك وأنت الحفيد.

 

وكأنما لا تتعرف (عليك) سوى بالخوف (عليك)، ولا بأس أن يتقاطع تعارفك ذاك مع معرفة الآخرين.

 

ـ الخوف، لا بد ويتقاطع أيضاً مع الصقيع، كلاهما يجعلك عارياً إلى هذه الدرجة أو تلك، حتى تغدو ملابسك أقل دفئاً من يديك في هذا المسلسل السيكولوجي الذي ينتهي بالذروة:

ـ خيال الموت.

 

وها هو العالم اليوم، عالم الخوف من المجهريات، لا عالم جرذان تسبح في السفينة وقد جلبت معها الطاعون، وبالقطع لن تكون ضحاياه بالقدر الذي حملته الجرذان إلى  أسوار عكا وقد حملت على عاتقها انهيار جيش نابليون.

 

الكوارث الكبرى حدثت، ومع كل كارثة جديدة تنسى كارثة كانت قد وقعت قبلها، فمهمة الكوارث أن تتحول إلى ممحاة لما قبلها من كوراث، ودون ريب فورثة سلالات قتلى الحروب والأوبئة يميلون إلى النسيان.

 

لا يتبقى من الضحايا سوى الأراشيف.. أراشيف لا تحمل الأسماء، ولا الصفات، ولا المنجزات، أراشيف هي مجرد أرقام، والرقم لا يختلف عن الرقم.

 

ماذا لو قلنا لك إنه في الحرب العالمية الأولى تدحرج إلى الموت:

 

في فرنسا 1,4 مليون قتيل و 4.2 مليون جريح.. هي أرقام في مأدبة التاريخ، فبالوسع مضاعفة العدد، وبالوسع تقليصه، وسواء ضاعفناه أم قلّصناه، فستذهب إلى المطبخ، وتعدّ ابريق الشاي، وقد يخطر لك أن تقيم حواراً في أفضلية عصير الليمون.

 

في النمسا 1,4 مليون قتيل و3,6 مليون جريح.. لابأس.. لن تنهض من فراشك لتتيقن إن كان القتيل صانع أحذية أم بائعاً جوّالاً.    

 

في روسيا مليونا قتيل وخمسة ملايين جريح، وليتك تعرف كم ترملت نساء فاتنات، فالمرأة الروسية تستحق أن تملأ فراشها بالرياحين.. أن تملأ صدرها بالألقاب.

 

وفي بريطانيا وإمبراطوريتها 960 ألف قتيل ومليونا جريح، وفي إيطاليا 600 ألف قتيل ومليون جريح، أما السلطنة العثمانية فقد دفعت  800 ألف قتيل ونسي الباب العالي إحصاء الجرحى، فالباب العالي لا يميط اللثام عن الجراح.

هل نعدد قتلى الحرب العالمية الثانية؟

 

ما بين 50 إلى 52 مليون قتيل، من المدنيين فقط،  أمّا فيما يتعلّق بضحايا الحرب من العسكريين فيتراوح عددهم ما بين 24 إلى 26 مليون ضحيّة، بالإضافة إلى خمسة ملايين آخرين على أقل تقدير ماتوا وهم بالأسر.

 

هل نذهب إلى الكوارث الأخرى؟

 

إلى الحمّى الإسبانية؟ إلى وباء الطاعون وقد قوّض إمبراطوريات ففتكت القوارض بسفن بحّارة أشدّاء حتى ثبت بأن الجرذان بلغت من القوّة ما يطيح بأسطورة كريستوف كولومبوس وبالسفن العملاقة، وقد حملت بريد الملح، وأذلت ربابنة البحار؟

 

ـ مالنا  نستعيد خيوط القرون الوسطى وقد امتلأت بأرصفة الموت وننسى لياليها الحمراء؟

 

ـ لابأس، فحين تكون الفجائع الكبرى، لن يلتفت المؤرخون إلى الأرائك المريحة وأشجار التفاح، سيكون صعبًا على الباحث في تاريخ الأوبئة الكبرى، رفع الشراشف عن ليالي ألف وليلة، مع أن للياليها فجائع كبرى غالباً ما انتهت إلى قتل الحكّاء.

 

لقد حدثت الفجائع تلك.

 

حدثت، ربما لأن الإنسان لم يتمكن من كتابة مصيره سوى بالهلع، وسيكون للهلع ما يجعلك تخلع عن هولاكو رداء وجهه.. قناعه، وباللغات الأجنبية (الماسك).. يحدث ذلك حين يتساقط زمن هولاكو وتستريح وقد أسلمت نفسك للتأملات، أما الضحايا، أولئك الذين سيغدون هياكل عظمية، فلابد أن تعوزهم اللغة ليحكوا لنا تفاصيل الآخرة.

 

وها نحن اليوم، أمام سلسلة من (الآخرات)، من قيامة أفراد أصيبوا بالزكام، بارتفاع درجة حرارة أجسادهم، بجفاف في الحلق، ثم بموت وقد نزعت السيّدة الممرضة جهاز التنفس عن أفواههم، رحمة بمن يحتاج إلى الجهاز.

 

ـ ثمة أفضليات للحياة.

 

هكذا ينبئنا بوريس جونسون:

 

ـ ستكونون في عهدة المنافس لا في عهدة الله.

 

يحدث ذلك اليوم، ربما في إيطاليا، وكذلك في إسبانيا، وقد يطال أمريكا، ولابد أن ضحايا العالم الثالث لن يجدوا صفحة في دفتر الوفيات، فالصفحات منشغلة بأخبار أباطرة منشغلين برسم أقرب الطرق إلى المقابر، ذلك أن استراتيجية القطيع التي أطلقها السيد بوريس جونسون، قد تلقفوها بكل الترحاب، فكل الناس عندهم قطعان.. قطعان يقتلون على بوابات المخابز.. يقتلون بالطلقات الطائشة، ويقتلون بالبنادق المصوّبة الى الرأس.. يُقتلون على بساط الريح (تخيّلوا ذلك الخيال الخلاٌق وقد منح آلة للقتل صفة الأسطورة)، وبكل البهجة يحوّلون انهار الدم إلى مستنقعات، وبعدها سيفعلون مثلك.

 

سيذهبون إلى إعداد أباريق الشاي، ربما في قاعات من الكريستال، ولكنه الشاي، هو الشاي، ومن الصعوبة بمكان أن يميّز الشاي ما بين الطبقات:

 

ـ شاي بروليتاري، وشاي الباب العالي.

 

كل الشاي هو الشاي، بفارق الأباريق التي لا تنسى.. تلك التي لا يتاح لك أنت (البروليتاري) أن تمسك بخزفها، ثم تدلقها فوق سيّدات طاهرات، بفساتين متوترة وهن يتجولن بين المقاعد بزهورهن المختبئة بين الأفخاذ.

 

ما بعد الخوف، أمامك واحد من خيارين:

 

ـ تموت، أو تنسى.

 

ولهذا ستنسى.

 

 سوى أن ما مضى من خلجات الخوف ستطاردك لتقول:

 

ـ هذا أنت وقد تعرفت إلى نفسك. وربما إلى شركائك في الفجيعة، وأكثر من ذلك ربما تكون قد تعرفت على من سينبئك بأن الموت الأسود، أو ما عرف بالطاعون سنة 1334 وقد وقع وراء سد الصين العظيم ومن ثم سافر إلى أوروبا، أن هذا الوباء قد كان سبباً من أسباب عصر النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر، وقد تتعرف على السبب:

 

ـ لأنه سبّب نقصاً في الأيدي العاملة فأجبر الناجين على الحداثة والنهضة.

 

وفق ذلك سيكون دافنشي واحداً من الأيدي العاملة، بروليتاري بمرتبة أعظم نحّاتي التاريخ.

 

ـ  حسنًا، لم الخوف والأمر كذلك؟

 

لا لزوم للخوف على (الأمّة)، فالأمم لا تنهض سوى بالوباء، بالطاعون، بالفايروس، وبمستنقعات الدم وهي تطفو على أفواه الأحياء، وها نحن بانتظار ما بعد كورونا.

 

ها نحن بانتظار أن:

 

ـ نخاف اولاّ.

 

وبعد الخوف قد تكون النجاة، وبعد النجاة لابد من النسيان لتسخين إبريق  الشاي، وبعد اندلاق إبريق الشاي على ملابسنا، ندخل العالم الجديد:

 

ـ عالم لا علاقة لساعة يدك فيه، فثمة توقيت آخر غير توقيتك.

 

ـ عالم الحكومة العالمية التي تراك وأنت لا ترى نفسك.

 

ـ تخاف عليك، وأنت لا تخاف على نفسك.

 

تلتهمك إذا أعوزتك الإرادة والحيلة على التهام نفسك.

 

وسُتنسى كما كل الأرقام، وها أنذا أراهن إن كان أيّ  منكم قادراً على ذكر اسم واحد من بين ملايين أسماء القتلى التي فتكت بهم الجرذان.

 

ـ أراهن أنني سأربح الرهان.