سيتغيّر العالم؟!!
ـ لم لا يتغير؟
يقولون في غرناطة إن قطعانًا من الغزلان والخنازير البرية تتجول في شوارع تلك المدينة المزروعة بالسيراميك، بلوحات تحكي الكثير، وبالرمّان أيضًا.. تتجول وقد أخليت المدينة من البشر.
ـ إنها غرينادا.. بلدة من مشتقات الرمّان.
أكثر من ذلك ربما لم يسبق لهذه المدينة أن شهدت يومًا كانت سماؤها فيه بهذا الكمّ من الزرقة.. زرقة صافية، وطيور لم تكن تأتيها بكل هذا الاطمئنان.
لقد عاد الإنسان إلى وكره.. وكر يمكن أن نسميه المنزل.
قد يأخذ أسماء أخرى من مثل:
ـ فيللا أو قصر أو استوديو ينحشر فيه عازف غيتار، ربما لا تساعده أصابعه على العزف وفق المكتوب في النوتة.. لابدّ سيعزف عزفًا حرًا خارج النوتة، وعلى الغالب لن يكون عزفًا راقصًا، فالرقص عند الاسبان لا يكون في الأماكن الضيقة.. الرقص يحتاج إلى فضاءات راقصة، واسعة تحتمل التلويح بالأيدي وإيقاعات الأحذية.
ولكن غرناطة تغيّرت، والعالم كله قد تغيّر.. الشوارع خالية من الأحذية، من الأقدام التي ترتدي أحذية. لا إيقاعات لشوارعها سوى الصمت، وغبي من يظن أن ليس للصمت إيقاعاته.. صمت تهتز له ضمائرنا وكأننا نراقص الكرة الأرضية.
الكرة الأرضية برمتها صامتة، كوكب بلا أحذية تمارس إيقاعاتها على الأرصفة. تمامًا كما حال غرناطة وأطباء غرناطة.
أطباء غرناطة مسافرون في رحلة الموت، يدخلون مستودعات المصابين بلا كمّامات ولا أردية واقية.. يدخلونها مكتفين ببزّاتهم الخضراء.
اسبانيا فقيرة.. هي كذلك، فقرها لم يسمح لها بالاستعداد للكوارث والجائحات الطبيعية، وهي فقيرة لا لأن مصادر الثروة فيها فقيرة.. هي مفقرة بالفساد، فساد أنظمتها وطبقتها السياسية المتحكمة التي باعت البلاد، غير أنها بنت المتوسط.. ذاك البحر المحمّل بالثروات، المفتوح على فضاءات لا حدود لها، وفيها قصر الحمراء.
ـ هل ثمة من يعرف قصر الحمراء؟
ـ إنه تحفة في عنق الأندلس.
ولكنها تغيّرت.
العالم كلّه تغيّر. وسيتغيّر أكثر، ولابأس أن نرى خطوات جاك أتالي وهو ينبئنا أن هذه الأزمة العالمية لن تغير أنظمة الرعاية الصحية فقط، ستغير الاقتصاديات والسياسة والثقافة وستنتج عواقب تدعو الإنسان، مطلق الإنسان، لاختيار البدائل بعد أن تبقى البشرية على قيد الحياة.
جاك أتالي متيقن من أن البشرية ستبقى على قيد الحياة، وأنا مثله متيقن من هذا..
إنني متيقن من وقاحة الإنسان، ومن جبروته، ومن قدرته على البقاء وحيدًا في الطبيعة لو قدّر له أن لا يبقي فيها أيًّا من الحيوانات الأخرى باستثناء تلك الحيوانات المدجّنة الصالحة للالتهام.. حيوانات المطبخ لا حيوانات الغابة.. حيوانات السجن لا حيوانات الفضاءات المفتوحة على اختياراتها.. الحيوانات المخصصة للثلاجات المنزلية لا لمراعي اليانسون ونجيل الأرض.
أنا متيقن من بقاء الإنسان، ولكنني لا أدرك على وجه اليقين كيف سيكون هذ البقاء وعلى أية شاكلة ومن أي طراز سيكون.
دون شك سيتسلح بما يبقيه على قيد الحياة وسيبتكر ما يكفي.. ربما في غضون ساعات من التقنيات الناضجة سيبتكر ما يسمح له بالتغلب على أمره.. على المخاطر الكبرى التي تهدده.
أما اليوم.. في لحظات الجائحة الكبرى، فها هي حكومات العالم تتوافق على الامتثال.
ـ امتثال المواطن لتعليمات الشرطة:
ـ اغسلوا أيديكم جيدًا بالماء والصابون.
لقد باتت الشرطة تحمل اسمًا جديدًا، وقد اختار جاك اتالي للشرطة اسم:
ـ شرطة الماء والصابون.
وعلى البشرية أن تصغي لأوامر الشرطة.
وعلى الطلبة أن يأخذوا دروسهم.. يفتحوا كراساتهم المدرسية وعيونهم على الشاشة.. الشاشة الزرقاء.. شاشة الكومبيوتر، حيث تتصل المدارس والجامعات بأكملها بالأنترنت.
ـ وبعدها.
هل ستتوقف الشرطة عن إعطاء الأوامر؟
هل سيكون الأمر كذلك فيما لو انسحب كورونا من حياتنا ودفن نفسه وانتحر؟
حتمًا لن تنسحب الشرطة من المكان، وإن تغيرت وظيفتها.
سيكون للشرطة ملابس أخرى مختلفة كليًا عن الزي الرسمي الذي تطالعنا به وقد أحاطت خصرها بحزام يتدلى منه مسدس بطلقات.. مسدس كوبري، أوكرا، أو مسدس تشيكي بجراب يتسع لتسع طلقات فالحكومات ستراقب الناس وستستمر في معاقبة المخالفين للقواعد، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. ودعنا نعود لجاك أتالي وقد أخبرنا أنه "قبل خمسين عاماً، لم يكن باستطاعة الـ كي جي بي متابعة /240/ مليون مواطن سوفيتي على مدار /24/ ساعة، ولا يمكن لـ "كي جي بي" أن يتأمل في معالجة جميع المعلومات التي تم جمعها بشكل فعال. اعتمدت وكالة المخابرات السوفياتية على عملاء ومحللين بشريين، ولم تستطع قط تعيين وكيل بشري لمتابعة كل مواطن".
لم يكن بالوسع القيام بمراقبة كل هؤلاء البشر عبر مخبرين يحملون "البرافدا" مثقوبة ويطلون بعين واحدة على رجل يمشي متلفتًا كما لو أن أشباحًا تطارده، ومادام الأمر كذلك، فلقد سقط الـ"كي جي بي"، سقط في وحول متاهة المعرفة، الرقابة.. إحصاء أنفاس الناس وأمزجتهم وعقائدهم.
لا.. لن يبقى الأمر كذلك، فمعركة وباء "كورونا"، كشفت عن الكثير (ربما القليل)، مما سيحمله عالم ما بعد كورونا، فالحكومات الآن تعتمد على أجهزة استشعار في كل مكان وخوارزميات قوية بدلاً من الأشباح الآدمية.
"في معركتها ضد وباء الفيروس التاجي، استخدمت عدة حكومات بالفعل أدوات مراقبة جديدة، أبرز حالة هو ما حدث في الصين. فقد تمت مراقبة الهواتف الذكية للمواطنين عن كثب، وتم تشغيل مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجه، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارة أجسادهم وحالتهم الطبية والإبلاغ عنها، لا يمكن للسلطات الصينية أن تحدد بسرعة حاملي الفيروس التاجي المشتبه بهم فحسب، بل أيضاً تتبع تحركاتهم والتعرف على جميع الأشخاص الذين يتصلون بهم".
أكثر من ذلك، ثمة ما يدعونا للقول:
ـ يا للهول.
نعم يا للهول، من المهم أن نتذكر أن الغضب والفرح والملل والحب هي ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. ويمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد السعال أن تحدد الضحكات أيضاً. فـ "إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكل جماعي، فيمكنهم التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف أنفسنا، ومن ثم لا يمكنهم فقط التنبؤ بمشاعرنا ولكن أيضاً التلاعب بمشاعرنا وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك منتجاً تجارياً أو سياسياً".
ـ تلك هي المراقبة البيومترية.
سنرتدي أساور في المعاصم، أساور لا تفارقنا لا في لحظات العمل، ولا في لحظات الاستحمام، ولا في اللحظات الحميمة التي لاشك لن تعود حميمة.
وستسقط الدولة.
الدولة بمعناها الأكثر تبسيطًا ونعني تلك الحدود الجغرافية المسوّرة، والتي يحدها من الجنوب ومن الشمال ومن الغرب ومن الشرق، وستكون دولة الكوكب.. دولة الشركة الكبرى.. الشركة التي تمتلك كل المقادير بما لا يبقي ورشة صغيرة لسيّدة تعدّ الفطيرة لعابر في جبال الساحل السوري، أو تلك السيّدة التركية التي تبيعنا كل أيام الآحاد في فرانكفورتا آليه البرلينية لقمة بالقاورما.. ستنتهي الورشة الصغرى، والمشاريع الصغرى، والدولة الصغرى، والأفكار الصغرى من مثل تلك الأفكار التي تراود مراهقًا في اصطياد ضحكة مراهقة تذهب الى المدرسة بثوبها المدرسي.
لا مدرسة بعد اليوم.. المدرسة في الجحر، ومن وراء شاشة الكومبيوتر، وبحكم المؤكد أن حكومات اليوم ستنتصر على الفايروس التاجي لترتدي تيجانَ جديدة، تيجان ليست مرصعة بستة كيلوغرامات من الماس أسوة بتاج كاترينا الثانية، سترتدي حكومات الغد تيجانًا متعطشة للبيانات:
ـ متى تصحو؟
ـ متى تنام؟
ـ ماهي مشروباتك المفضلة؟
ـ ما مدى اضطراب الغرائز فيك؟
وماهي درجة حرارتك، ولابد من معرفة درجة حرارتك لحظة بلحظة، فالفايروس الذي اجتاحنا في 2020 لابد ستنخفض الإصابات فيه، وعلى هذا فعلى الحكومة العالمية المقبلة أن تتقصى احتمالات فيروسات جديدة متعطشة لدمك.
ستموت شرطة الصابون وسينتهي دورها.. ستخلع عن عروشها باتجاه شرطة جديدة لاشك ستأمرنا بأن نغسل أيدينا.
ـ بماذا سنغسل أيدينا؟
ـ لا نعلم.
دعوا الأمر والأوامر لما تحمله الفيروسات من اقتراحات لعصر جديد.. زمن جديد، ينسينا زمن الـ"كورونا".
ليس زمن الـ"كورونا" وحده.. سننسى زمن غوار الطوشة، كما أزمان القياصرة.
كل التاريخ سيبدو من مرتفعات الحجر الصحي:
ـ تاريخ من تَنَك.
نحن تنكة.. تنك مختبئ في تنك:
ـ ما تريوشكا ولكن من تنك.