نبيل الملحم
ما بعد "الطاعون"، وقد اجتاح أوروبا في القرن الرابع عشر للميلاد، غادر الأوروبيون الكنيسة، وأطفئت قناديلها، ولم يعد للكهنة مكانهم في تلاوة الرحمة على الجثث وتمني آخرة طيبة لمن غادر الأرض ملتحقًا بالسماء.. كان على الناجين، أن يتحوّلوا إلى صفحات بيضاء، بشر بلا ذاكرة سوى ذاكرة الجرذان وقد صعدت السفن ناقلة معها الحمّى القاتلة والندوب التي تعصر قيحًا.. كان على الأوروبيين البحث عن الله، دون الأناجيل وقناديل الهيكل، وبعدها ماتت الأناجيل فيهم ونبت لهم إله آخر.. ليس إله يسوع على كل حال.. إنه إله جاء من أهوال المقابر الجماعية وقد حصدتهم مناجل الموت.. بات لهم إلهًا متخيلاً آخر، يمكن نعته بـ :
ـ إله ما بعد الطاعون.
ذلك ما تحدثه الأهوال الكبرى، أهوال من نوع:
ـ الزلازل / المحارق الجماعية / الحروب الفتّاكة / المجاعات الكبرى.
حين تحدث، تعود البشرية إلى الصفحة البيضاء لتكتب عليها باعتبارها بداية لتاريخ بشري جديد.
كل ناج منها سيبدأ رحلته من الصفر.
ـ على المرأة الناجية أن تعتقد بأنها نزلت توًّا من ضلع آدم محاطة بالفراغ، وعلى الرجل أن يعيد التفاحة إلى ما قبل قضمها، ثم:
ـ يسترخي في حضرة الله.
تذوب العقائد، وتنهدم البديهيات، ويغدو الإنسان، كائنًا متأملاً، وهو الكائن المطحون في المقدّس.. مقدّس الاقتصاد / الأنظمة / الزنازين .. المطحون بالضجيج.
مع الكارثة، لحظة وقوعها، لن يعود إلى الماضي، سيتسمّر في اللحظة، لن يتابع أخبار الحثالة من بارونات السياسة وبارونات المال، أولئك الذين لا يلتفتون إلى أنين الناس وعذابات الناس، ولن يعود للصراخ في وجه أولئك السفاحين وقد أبعدتهم الكارثة عن الزج بهم وراء القضبان.
أمام الكارثة، سيجلس وهو يمصّ أصابعه طلبًا للنجاة.
ـ النجاة وحدها ما سيطلبه.
نجاة بلا قيد ولا شرط على الحياة.
ـ أعطني يومًا وخذ حياتي.
هي ليست تراجيديا كما نظن، هي مهزلة كذلك، ولولاهما (التراجيديا والمهزلة)، لما أخذت البشرية مصيرًا آخر، مصير لا يحن إلى الأمس على كل حال.
تلك اللحظة ما بين الأمس والغد.. أيّ هذه اللحظة بالذات، هي ما يسميها تولستوي بـ "اللحظة الأم".
ربما كان يعني بها:
ـ اللحظة الولاّدة.
ولم لا؟
ما الذي أبقته الحرب العالمية الثانية للبشرية مما كان قبل وقوع الحرب؟ إنها اللحظة الأم.
ما الذي أبقاه الاحتلال الأمريكي للعراق من العراق ما بعد انهمار صواريخ توماهوك؟ إنها اللحظة الأم.
ما الذي أبقته الثورة الفرنسية لفرنسا ماري انطوانيت؟ إنها اللحظة الأم.
بل ما الذي سيبقيه كورونا والذي يزداد هولاً يوماً بعد يوم، عما سبقه من أيام، وقد حمل ظل القتل على كتفيه.
سيعقبه الفراغ اولاً، وستسترخي البشرية مع أول اكتشاف للعقار السحري الذي يبعد الموت عنها، وقد يحلو لها أن تميت الذاكرة وتتركها للمؤرخين.
ـ المؤرخون فقط سيتذكرون الفايروس، أما البشرية، فستعود إلى أحمالها وأعمالها، وسيثابر الآدمي على الاعتقاد أنه المخلوق المتفوق على الشمبانزي، فالشمابنزي، لا يبدد مئة موزة ليصنع طبقًا من الورق.. الموزة عند الشمبانزي.. في عقيدة الشمبانزي هي الموزة فقط.. لا قبلها ولا بعدها، ولهذا بقي هذا الكائن أقل عرضة للحوادث، بل وأعظم قدرة على التعاطي مع قوانين الغابة، فلو أرسلنا رجلاً من نوعنا، ورجلاً من نوع الشمبانزي الى الغابة، فبلا أدنى شك، سيتفوق رجل الشمبانزي على رجلنا، ذلك أن الغابة تمنح الفرد حس المواجهة، ورجلنا الآدمي، لم يكن فردًا عبر تاريخه.. إن هو إلاّ مجموعات متضامنة، متآزرة، عاقلة، شغلتها أن تنتهك نفسها وتنتهك الشمبانزي إن أتيح لها الانتهاك، وهنا هلاكها، وهنا تفوّقها.. هنا لعنتها العظيمة التي تسميها (عبقرية) دون أدنى خجل من تاريخها الذي كان ولم يزل موّلدًا لفايروسات، وكان آخرها سوبر فايروس:
ـ فايروس لا حياة فيه خارج خليتنا، ثم نمنحه بموتنا الحياة.
قد ننجو منه.. وسننجو، حتمًا سننجو، وبعد نجاتنا سنبدأ رحلتنا نحو عالم جديد، عالم لا نعرف ماهيته، قد يكون:
إعادة إنتاج اتساع الهوة بين أصحاب الثراء الفاحش وضحايا الفقر المدقع.
وقد يكون، إسقاط العولمة لحساب القوميات العدائية التي تبرر الإنفاق اللامتناهي على حفظ الأمن وإنتاج السلاح.
ـ وقد يتخطى الوباء مفاعيله الراهنة، بعد أن تحدث الانهيارات الكبرى في اقتصاد العالم، ليفتح الحرب الساخنة ما بين أمريكا والصين.. حرب الصواريخ العابرة للقارات وقد تعثر على إصبع تضغط الزر النووي، إذا ما حدث ذلك سيكون على البشرية أن تتصالح مع النسيان .
وقد يكون انفصالاً مطلقًا وبالغ الشدّة ما بين الولايات المتحدة وأوروبا، تلك القارّة التي وجدت نفسها مع الكورونا متسوّلة على بوابات الصين، وهاهم الصينيون يرسلون معوناتهم للطليان، مرفقة بـ :
ـ بحرنا أمواج والموجة تجري ورا الموجة عايزا تطولها.
ما الخيارات؟
ـ ضبط الأعصاب، إن تسنّى التقاط الصور التذكارية مع الفايروس.. مع الفايروس ضاحكًا.
ومع صورة كهذه قد لا يكون بوسع الإرهاب سوى توليد الإرهاب.. إرهاب التكنولوجيا المخبرية قد يقابله إرهاب الإيديولوجيا الدينية، وهو عقيدة إسلامية خالصة، حتى أنه جاء في نص صريح من القرآن الكريم وإذا ما حدثت فوضى العالم (وقد تحدث بل على الغالب ستحدث) فلا بد من استثمار الآية "وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ"، وهل من سحر يضاهي مختبرات تصنيع الفايروس وما بعده من فايروسات؟
وقد تكون الحروب المفتوحة:
ـ درع صاروخي يقابله حزام ناسف.. فايروس يقابله إعلان القيامة وقرع أجراسها، وقد يتحوّل العالم إلى ما يشبه استحالة التعايش على هذا الكوكب، مع أن الجميع يعيش على أرض واحدة، وقد يغدو وجود الأكاديميين استحالة بربطات عنقهم وقد ذهبنا إلى العبث بعد أن أدمنا ارتداء الملابس المنزلية طيلة أشهر من الحجر الصحي.
يبقى السؤال الأهم:
ـ ما مصير النارجيلة فيما لو تجاوزت البشرية هذه الجائحة؟
سننفث زفراتنا في الهواء دون جمرة متّقدة.. سننفث الهواء وقد بتنا على عداوة مستحكمة مع الهواء بعد أن طالنا رعبه.
ـ الهواء مرعب أيها السادة.. ابتعدوا عنه فإذا ما استوطن الهواء في الرئة فستموتون اختناقًا.
هل بوسع فرانسيس كوبولا أن يتجرأ على صناعة فيلم يحمل عنوان: "القيامة الآن" بعد الآن؟
من الصعب أن يحدث ذلك، فالرؤية السينمائية (وأميّز ما بين الرؤية والرؤيا)، لن تتحقق ونحن نحيط افواهنا بالكمّامات.
أما عن العرب، فليس ثمة شك في أنهم سيتابعون حياتهم كما لو مازالت ناقة طرفة بن العبد تحمل قطاراتهم:
لها فَخِذانِ أُكمِلَ النَّحْضُ فيهما … كأَنَّهما بَابَا مُنِيفٍ مُمَرَّدِ
ثم يستغرقون في إعراب الجمل.