نبيل الملحم
لم أكن أعلم أنه "عند موت القدّيسة تيريزا أفيلا، شعر الدير بأكمله كما لو أن مجموعاتٍ غير مرئيةٍ من الزهور قد تدفّقت من النوافذ، واستمرّت رائحة الورد تنبعث من قبرها لمدّة ثمانية أشهر كاملة"، تمامًا كما لم أكن قد عرفت شاعرًا سوريًا هو محمد دريوس وقد دلّني على أنه ليس من اللائق في زمننا أن تشتم رجلاً بالقول "منتن كما حذاء قديم"، غير أن ما عرفته أنني وبعد قراءة نصّه "رائحة الخيانة"، أصابني ما أصبت به ما بعد قراءتي لرواية شيفيك في الحرب العالمية الثانية، بفارق الفارق ما بين الموضوعين، وأعني بما أصابني، هو ذاك العصف الذي يولد فيك ألف سبب وسبب لتكون ما قبل قراءته غير ما بعده، فمع "شيفيك" تعرّفت على ذاك الجندي الذي يتلقى الأوامر بكل الطاعة، ثم يسدّد ليقتل وهو القتيل، أما مع دريوس، فكلنا قتلى.. قتلى استبدال روائحنا الممزوجة بالأسى، كما روائح "التراب بعد أوّل هطول"، أو كما "البسط المنسوجة وأطباق القشِّ"، أو تلك "الرائحة التي تبقى بعد رحيل الأجساد، كخناجر مغروسة في الهواء"، واستبدالها بروائح أخرى ليست روائحنا على أية حال، فالحال أن كل ما فينا وما حولنا محاط بالروائح الاصطناعية، بما يعبث بحواسنا حتى نكاد نتشكل على ما تراه شركات العطور الكبرى، ما فيات تجميلنا، كارتيلات إعادة صناعتنا، دون ملاحظة احتلال حياتنا بعد أن لم يعد لشيء رائحته الحقيقية، بما فيها رائحة الطفولة وهي "مزيجٌ سحري لم يسبق لأحدٍ أن تمكّن من تفكيكه، مقادير مختلفة من حليب الأمّهات وعرق الأطفال، رائحة الأسنان تشقّ اللثة والفواكه المهروسة، رائحة اللثغة في الأحرف الأولى والاصطدامات بالأثاث عند المشي، مع كمّيات إضافيّة من الأغاني التي تعبق بالحيوانات اللطيفة والـ"إغغغغغي" ومفردات أخرى تطير في الهواء ككرات بأجنحة"، وما بين قوسين، لم يكن محاطًا بالأقواس، ولكنني وضعت الأقواس، لأن هذا الوصف للدريوسي وليس لي، وكل ما تبقّى لي هو أن أحافظ على نزاهتي فلا أنسب لنفسي ما هو لسواي.
لم يعد لنا من كل ذلك سوى نيونات الإعلانات عن الروائح، فيما نتجوّل ما بين المخازن الكبرى والمقابر، والآتون من ليل مجاعتنا يمسكون بأيدينا لنكون زبائنهم، نتجوّل في بضاعتهم، ونحن بقايا زمن ميت، مدن ميتة، مقابر ميتة، وسيحلو لنا وبكل شفاهنا أن نصرخ:
ـ يا لها من حياة لذيذة.. يا لها من روائح فاتنة.
نصرخ، دون ملاحظة في أية غابة نحن.. بل في أي مستنقع نحن، ودون ملاحظة ذلك البعد الكوميدي في حياتنا التراجيدية، ونحن خانعون في حضرة "الماركة"، متباهون بما يُقتل فينا، فـ حين نسأل طفلاً:
ـ ماذا تشبه رائحة والدتك فسيجيب على الأغلب: اللافندر، وهو في هذا لا يذكر رائحة والدته بقدر ما يذكر رائحة معطّر الملابس.
ذاك سؤال ينقله دريوس، ويوثّق للإجابة.
وبأنوفنا الفطساء، لا نعلم أي مصائب تنتظرنا ونحن نتناول العطورات في الداون تاون، كما لو كانت لبنًا، فيما صواريخ التوماهوك تتساقط على عواصمنا، مقدمين الشكر لإله نتذوق معجزاته في تبديل روائحنا، وهو الإله الذي دلّنا إليه هذا الشاعر السوري بعد أن دعانا إلى أن: "نشمّه بكثير من الصعوبة"، بعد أن ينبهنا إلى أنه: "لا يمكن للشمِّ كحاسة متدنيّة أن توصل إلى تجربةٍ ناصعة في معرفة الربِّ".. ومع ذلك تعالوا نذرف المحاولة، كما نذرف الدم / الدمع / الوقت / عرق الجسد والوجوه المحترقة، كما الأيدي المحترقة، كما الايديولوجيات المحترقة، كما الحرائق التي تعبث بأثاثنا دون أن نلحظها، وكأنما يدعونا إلى الانسحاب فيما لو عثرنا على حس المعرفة، أو حس الملاحظة، أو تلك الغطرسة التي تمحو وجودنا، بدءًا من محو حاسة الشمّ لدينا، ليكون الشمّ، هو فقط ما يراد لنا أن نشمّه كما لو أنه أثمن الهدايا.
مع شيفيك في الحرب العالمية الثانية، دلّنا التشيكي جاروسلاف هاسيك، على تلك الطريقة المميتة لمغامرات الجندي الصالح شيفيك أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي رائحة الخيانة يدلنا محمد درويوس على تلك الطريقة الفاتنة التي تقتلنا في استعار حرب لا بنادق فيها.. مع شيفيك نضحك على الموت، ومع دريوس نبكي من الموت، ومع الأول والثاني ثمة كشف لابد وأن يسحبنا من الأهازيج الجوفاء التي تحيط بنا كما لو سوار في معاصمنا.
بالنتيجة سأقول:
ـ أنا الموقع أدناه، يطيب لي الانسحاب من هذا الزمن، أريد زمنًا آخر هو ما أراده دريوس:
ـ مقادير مختلفة من حليب الأمهات.
ـ عرق الأطفال.
ـ رائحة الأسنان تشق اللثة.
مع كميات من الأغاني.