كما لو أنهم في عام 1910

كما لو أنهم في عام 1910

 

من الصعب منافسة أحد للكرد في عدد من المجالات. فهم الشعب الذي ما زال يتلقى أكبر عدد من النصائح والرسائل والتوجيهات التي تعرّفه على نفسه وقدراته منذ 100 عام، من قبل أنظمة تحرص على إبقاء الكرد خارج الاعتراف، ومعارضات لا تختلف عن الأنظمة في التمحور حول مركزية لا تحتمل التعددية السياسية والقومية.

 

حين غادرت النخبة السياسية الكردية، تزامناً مع مغادرة النخبة العربية، بشكل نهائي، جمعية الاتحاد والترقي سنة 1910، تلقى أفرادها توجيهات ونصائح ورسائل. وبعد مرور 110 سنوات على تلقيهم هذه النصائح التوجيهية القادمة من خندق "الأوصياء" على الوطن، تتكرر الكلمات ذاتها، والتعالي السياسي ذاته اليوم أيضاً.

 

الإنصات إلى خطاب الخصوم وحتى الأصدقاء لا يمنح شعوراً سوى أن هؤلاء عالقون في الربع الأول من القرن العشرين.. حين كانت السياسة "برنامج عمل داخلي معلن"، يتوقف على الطرح وليس الظرف. يومها أراد العرب اللامركزية فنالوا أكثر مما كانوا يطمحون وما لم يخططوا له أساساً. وكان الكرد قد سبقوا جمعية العهد وغيرها في الحكم الذاتي لكردستان، لكنهم حصلوا على أقل مما حصل عليه الهنود الحمر في الولايات المتحدة. يشكل هذا الاغتراب التاريخي معضلة في التخاطب الثنائي.

 

ليست هناك مشكلة أعمق من هذه الهوّة الزمنية الافتراضية والمعطِّلة. ليس هناك برنامج سياسي لأي حزب كردي، إلا ما ندر وعلى الهامش، ينتمي إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لكنه في الوقت نفسه، مهما اعتقد أنه طوّر من أطروحته وتجاوز التصورات الأولية البدائية التي كانت سائدة مطلع القرن العشرين، فشريكه المفترض يعيده إلى ذلك الزمن، لأنه لا يراه إلا هناك:

 

(كردياً واقفاً على أبواب سايكس بيكو وبيده خرائطه التي تحدد وطنه وأرضه وعشائره. بل هناك من ينظر إلى أنّ الكرد، بكافة أحزابهم وتشكيلاتهم وأفرادهم، حفظوا عن ظهر قلب نظريات القومية كما عرّفها وعرضها بندكت أندرسون وماتزيني وهوبزباوم، واختاروا أسوأ أشكالها، وهو افتراض أن هذه الأرض لهم قبل أن يتأكدوا ما إذا كان هناك شركاء لهم فيها، ثم البدء بتفريغها من كل من هو ليس كردياً، وتهجيره، ورسم حدود عرقية في سوريا، والمطالبة بفيدرالية لا تضم سوى الكرد).

 

تصوير السياسة الكردية بهذا الشكل، لا يتضمن فقط مغالطات وانزياحاً زمنياً نحو الخلف لمئة عام، بل تعالياً لا يبتعد كثيراً عن العنصرية، وإنْ لم يكن بقالب اللون أو الطبقة، بل عنصرية "الذكاء" المفترض مقابل الغباء الجمعي المفترض. كما يوحي أن الكرد "برواز" لوحة ثابتة. 

 

وفقاً لذلك، يمكن توقع كل ما سيقوله معظم من في المعارضة والنظام معاً، وكتابة مضمون خطابهم على ورقتين لا غير، وضمان أن يكرروها جميعاً بتغيير الترتيب في الفقرات.

 

وبالتالي، من الغرابة أن تظهر دعوات للحوار الكردي العربي (في الإطار السوري) في وقت لا تتوفر فيها أي أرضية زمنية للحوار، وأولها الوعي المشترك بالزمن فكرياً، وبالشوط الذي وصل له كل طرف، سلباً أو إيجاباً. غياب الوعي المتبادل بالآخر وبرنامجه السياسي ومخارج كل طرف من الطريق المسدود، لا تنتج سوى حالة من اليأس المتبادل بالطبقة السياسية، وتطلق العنان للمأزومين للإدلاء بدلوهم المليء بالكراهية والتحريض على القتل المتبادل.

 

رغم الفارق النوعي الذي سينتج عن تحول طرق التفكير السياسي السوري المعارض، تجاه القضية الكردية، في حال انتهاء أزمة الاغتراب التعريفي العالق زمنياً في "سايكس بيكو"، والرابط بين الأسلوب النازي والكرد، فإن هذه العقلية أنتجت جيلاً تأسس على قناعة أنه "يعرف" لمرة واحدة وإلى الأبد، وأن الكرد شعب مهاجر جاء إلى سوريا، ويجب طردهم إلى خارج سوريا إذا أرادوا رفع صوتهم. وبعض ممن ساهم في إنتاج صورة للكراهية من هذا النوع ما زال مواظباً على تغذية تلاميذه بما يزيدهم تعالياً وعنصرية وإنتاجاً للكراهية.

 

لا يقتصر الأمر على من اتخذوا مواقع الخصوم، بل حتى الغالبية من أصدقاء الكرد، أولئك الذين يتفهمون حتى تقرير المصير والاستقلال الكردي، فإن تسامحهم أيضاً ليس نابعاً من فهم للطرح الحالي، أو الرؤية المطروحة حالياً شرق الفرات، والتي تحاربها تركيا بشكل مباشر وعبر أبواق إعلامية تحرض على الحرب الأهلية.  لأن تفهّم هؤلاء أيضاً عالق زمنياً في النقطة ذاتها، أي قبل قرن من الزمن، لذلك فإن "أصدقاء الكرد" ما إن يتطرقوا للقضية الكردية فإنهم اختصاراً للنقاش يمكن أن يصرحوا بدعمهم حتى لحق تقرير المصير! هل هذا مطروح كردياً في سوريا؟ حق تقرير المصير بالشكل المنتمي لعصبة الأمم؟

 

لكن ليس الجميع على سوية واحدة. فالدولة التركية، عبر استخباراتها وأذرعها، تفهم جيداً كيف أجرى الكرد، تحت قيادة جنرال شاب، ونخبة من السياسيين المتفرغين للعمل النضالي، تحولاً تاريخياً في تعديل التعريف القومي الكلاسيكي بتعريف آخر لا يتطلب تحققه وإنجازه وترقيته، حدوداً وفصلاً قومياً وأسلاكاً شائكة تفصل القرى والحارات، بل تشاركية وإيمان بالتعايش مع ضمان حق الاحتجاج ووضع مسألة "الضغط الشعبي" ضمن أجندة العمل اليومي لتفاديها أو التخفيف منها عبر تلبية المتطلبات الملحة قدر الإمكان. وهذا الإطراء لا يغفل عن الفساد في بعض أروقة الإدارة شرق  الفرات، ووجود مظالم حقيقية لفقراء ومعدمين في مناطق تم تحريرها مؤخراً من تنظيم داعش، وهذه متطلبات تشكل تحدياً لكل من الإدارتين العسكرية والمدنية، وكذلك المنظمات المدنية والإغاثية العاملة في المنطقة.

 

يصدف أنه حين يطرح أحدهم في المعارضة نفسه وصياً أو ممثلاً في الخارج لشرق الفرات، فإنه يعود بنفسه وبالإدارة والمنطقة كلها إلى ما قبل مئة عام، ويستعيد الخطاب الشعبوي المتعالي، دون أن يدرك أن التعالي على الآخر، هذه الآفة، موجودة في كل المجموعات البشرية.

 

اليوم تقف سوريا على عتبة كارثة إنسانية بسبب الانهيار الاقتصادي الناجم عن قرب تفعيل قانون "قيصر"، فضلاً عن سوء إدارة دمشق للملف الاقتصادي، والأخطر أن الحكومة، ممثلة بأعلى قيادة فيها حتى أدناها، تفصل بين السياسة والاقتصاد، فهي تريد مكاسب السياسة دون وضع الاقتصاد في الاعتبار، أو ربما تعتبره ملحقاً بالسياسة وتحصيل حاصل. في الجهة الأخرى، تعتاش المعارضة في مناطقها على المنظمات الإغاثية، وهذا مؤقت، وما تتيحه لها تركيا الاحتلالية، فلا يوجد في أيديها شيء اقتصادي غير طريق حلب – اللاذقية، وهذه أيضاً في طريقها للعودة إلى النظام وروسيا.

 

تبقى مناطق الإدارة الذاتية الأقدر على إدارة نفسها في ظل الانهيار الحاصل. ورغم أنه لا يمكن الحديث عن إنجاز قريب أو بعيد في ظل الظروف الحالية، فإنه يمكن التيقن أن منطقة شرق الفرات ستكون آخر الصامدين إذا بقي هناك صامد أخير.

 

حتى في هذه الحالة، ليس مرجحاً أن تنتهي أزمة الاغتراب الزمني التعريفي للكرد، وكأن مارك سايكس قد غادر للتو خيمة إبراهيم باشا الملي. ويا ليت المغتربين في الزمن يعرفون هذه الحادثة أيضاً!