ماذا لو أرادوا توحيد الكرد وتفكيك شرق الفرات؟

ماذا لو أرادوا توحيد الكرد وتفكيك شرق الفرات؟

 

من بين الاتجاهات التحليلية لسياسات القوى العظمى، ما زالت المسارات الروسية في العالم هي الأكثر غموضاً. رغم ذلك، فإنها الأسهل تناولاً من حيث أن الغموض لا يعني التوقف عن التطرق للأمر، بل يجري تناوله بشكل سطحي وتبسيطي، لدرجة اختلاق سيناريوهات مع ترك انطباع بأنها على وشك التحقق. وليس من الواضح إذا كان هذا راجع إلى توجه روسي مقصود في ترك هامش ليعتقد كل طرف أنه في لحظة ما قد تكون روسيا ملجأه الوحيد. على هذا المنوال، فإن كافة الأطراف المحلية المنخرطة في الصراع السوري لديها احتياطي من الأمل بأن روسيا تفعل "شيئاً ما" سيكون في نهاية المطاف ضربة لخصم هذا اللاعب المحلي.

 

على هذا النحو، لا تقاوم أجهزة الدعاية في الدولة الروسية الشائعات الخارجية التي تساهم في مزيد من التشويش الإعلامي. فمثلاً، هناك إلى اليوم من يعتقد أن حزب العمال الكردستاني كان أحد وكلاء دولة السوفييت، وأن هذا الميراث المشترك يسهّل أي تفاهمٍ مطروح بين روسيا وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرقي سوريا. هناك رؤية معاكسة تماماً، وهي منتشرة لدى المعارضة السورية الموالية لتركيا، مفادها أن روسيا – من حيث هي دولة عظمى- أولويتها ضرب النفوذ الأمريكي في سوريا، فإن كسر شوكة الكرد يدخل في صلب اهتماماتهم، لأنه بدون ذلك لن يكون من الممكن إخراج أمريكا من سوريا. ومؤخراً باتت طروحات هذه المعارضة تتوكل على روسيا لإخراج إيران من سوريا.

 

في المقابل، هناك رؤى يتداولها النظام وأنصاره، وتعرضت للاهتزاز مؤخراً، وهي أن الدولة الروسية تتعامل مع الدولة السورية حصراً، ولا شرعية سوى شرعية الدولة السورية، وروسيا ملتزمة بذلك تماماً. وهناك رؤى خاصة بأتباع تركيا ممثلة بجماعات كردية صغيرة، وهم أفراد يتشاركون ذلك مع أقرانهم في المعارضة، ومفادها أن روسيا لديها مخطط "عبقري" طويل الأمد يقضي بإخراج إيران وحزب الله من سوريا. وأن الاحتلال التركي في سوريا من مصلحة روسيا لكي توازن بها النفوذ الإيراني.. وما إلى ذلك من أقاويل، العديد منها ترّهات واضحة.

 

لا تخرج الإدارة الذاتية الديمقراطية، وقوات سوريا الديمقراطية، عن الإطار السابق في التعاطي مع هوامش التواجد الروسي في شرق الفرات وبقية سوريا. وسيكون من الخطأ اعتبار أن الحوار الكردي يرعاه مسؤولون في الخارجية من أمريكا وفرنسا وأن روسيا غائبة عن أجنداتها وأهدافها ومخرجاتها المرتقبة.

 

لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي، رؤاهم الخاصة حول الحوار الجاري حالياً. لكن ماذا عن الأطراف الراعية للحوار؟ هل أهدافها مطابقة للأطراف المحلية المعنية؟.

 

ما هو معروف لدى أصحاب القرار ضمن الأطراف المحلية المذكورة، هو أنّ التنافس الدولي في سوريا وشرق الفرات دائرة دُنيا ضمن الدوائر العليا للصراع على مستوى العالم. بالتالي، ليست هناك أولويات لا يمكن التفريط بها بالنسبة للدول المنخرطة في الصراع، وكان ذلك جلياً خلال خديعة ترامب فتْح الطريق أمام القوات التركية والفصائل المتطرفة العاملة لديها لغزو تل أبيض وسري كانيه (رأس العين) وتشريد مئات الآلاف من السكان. قبل هذه الصدمة كانت روسيا قد فعلت شيئاً مشابهاً بخصوص عفرين، حين سحبت نقاطها أمام الجيش التركي وفصائل المعارضة التي تحاربها موسكو بشكل مباشر على الأرض.

 

في كلا الحالتين كان يتم لوم الجانب الكردي، وهو زعم ليس خاطئاً على نحو كلي في النهاية، لكنه يخفي جانباً من رؤية متفق عليها بين موسكو وواشنطن بخصوص قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الحالية شرق الفرات. فكل منهما تريد تفكيك جوهر النظرية السياسية القائمة هناك. كان هذا المطلب في صلب المناقشات التي سبقت مناقشات جيمس جيفري، المسؤول الأمريكي عن الملف السوري، وفتح الطريق أمام الغزو التركي بذلك الشكل الذي أربك أمريكا داخلياً على مدى أسابيع. جيمس جيفري الذي وصفه فيتالي نعومكين، بأنه "المبعوث الأمريكي الخاص للحرب ضد روسيا"، يتفق مع روسيا في جوهر السياسة شرق الفرات، وهو أن يتم تقسيم المنطقة ليس بين النفوذين الروسي والأمريكي، بل قبل كل شيء إعادة المنطقة إلى وحدات بشرية قديمة، قبائل وقوميات وطوائف منفصلة عن بعضها البعض، لا تجتمع معاً تحت أي سقف بشكل مستقل، وكل ذلك تحت عنوان آخر هو "فك الارتباط" المزعوم بين الإدارة الذاتية وحزب العمال الكردستاني، أي إنهاء التشاركية القائمة في الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، والتي رغم الملاحظات والانتقادات غير القليلة عليها، لكنها حالة غير مسبوقة في تاريخ منطقة شرق الفرات منذ إلحاقها بشكلها النهائي بالدولة السورية عام 1930.

 

وتدفع وزارة الخارجية الروسية – وهي لا تختلف هنا كثيراً عن الخارجية الأمريكية – إلى أن يعيد الكرد تعريف أنفسهم، وأن يقدموا أنفسهم كمكون كردي لا شأن له بشيء سوى ما هو كردي، وإنهاء مظاهر التشاركية القائمة بين ممثلين عن كافة مكونات المنطقة. وفق ذلك، الكرد يتحدثون باسم الكرد، والعرب يتحدثون باسم العرب، وبشكل متفرق، كل قبيلة تمثل نفسها بداية. هذا التفكيك يمثل رؤية دولية مضادة لرؤية أخرى كانت تريد التجميع في بدايات الأزمة، أما اليوم فبات الغالب تيار ينحو إلى تفكيك ما تم تجميعه، وهذا يمهد إلى أن توضع هذه الأطراف المحلية تحت وصايات إقليمية محتملة. وإنْ كان هناك من سيطالب بدليل أو وثيقة، فذلك غير متوفر، لكن يمكن المراقبة إلى أين تسير الأمور، ومن هذا المنظور يمكن استيعاب ما يجري حالياً من تسويق أمريكي فرنسي، بصمت تركي، ومراقبة روسية من بعيد، لمسار سياسي يعمل على التقريب بين طرفين كرديين، هما الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي. لكن وجهات النظر حول مخرجات هذا الحوار متباينة، وأحياناً متناقضة. فهناك أطراف دولية مشجعة للتفاوض، تدفع إلى فضّ الشكل القائم من التشاركية في شرق الفرات، وبناء شكل جديد. وهذا الجديد بحسب إشارات أمريكية وروسية وأوروبية، لا يستبعد فض التشاركية متعددة القوميات والأديان في منطقة الجزيرة، وهي التي تتجسد في مؤسستين، الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي يصطدم برفض صلب من جانب الإدارة وقوات سوريا الديمقراطية. غير أن الخطورة ليست في رفض مضامين التفكيك الروسي الأمريكي المحتمل للإدارة الذاتية بحد ذاته، بل في عواقب رفض ذلك.  

 

في المحاولة السابقة للحوار بين الإدارة الذاتية وممثلين عن الحكومة في دمشق، كان هذا المطلب يتكرر من قبل موفدين روس يعملون على الأراضي السورية وأيضاً مسؤولين حكوميين: "لا شأن لكم بأحد غير الكرد.. تفاوضوا باسم الكرد وستكون مكاسبكم أكبر".

 

قد يكون هذا الرأي ليس صائباً، أي أن جولات الحوار "الكردي – الكردي" شأن منعزل عن الواقع الإداري والعسكري، وكل شيء سيبقى على ما هو عليه، وأي تفاوض بين دمشق وشرق الفرات سيكون تمثيلاً للمنطقة كلها، وليس لمكون واحد فقط. قد يكون كذلك، لكن كلاً من الرؤيتين، الروسية والأمريكية، تهدفان إلى تقليص حجم المفاوِض الممثل لشرق الفرات، أحدهما يريد تقليص قوة شرق الفرات لتحقيق شيء ما لتركيا، وآخر يريد الأمر نفسه لصالح دمشق، وهذا التقزيم يخاطر بمناقشة تفكيك الإدارة الذاتية سياسياً، وتنقية "المكون الكردي" من بينه ليمثل نفسه، وهذا ما لا تتوقف عنده فئة من القوميين الكرد، ذلك أن هذه الفئة ما زالت أسيرة عواطف مهرجانية وطفولية، تمتلئ عيونها بالدموع لدى سماع أغنية أو رؤية العلم، تعشق كلمة الكردي، وتريد أن تراه في كل شيء، ولا تحتمل أن تكون مؤتلفة في إدارة تمثل الجميع، لذلك ستعتبر هذه الفئة ذات الأفق الضيق، أن من مصلحتها هذا التوجه في إجبار الكرد على تمثيل أنفسهم، وإجبار العشائر العربية على تمثيل نفسها، وتمزيق التشارك السياسي. في الواقع إن نتيجة هذا المسار سيكون انتزاع الجغرافيا من الجميع، ووضع الجميع تحت وصاية القوة المركزية، أو ربما قوتين مركزيتين في الوقت الحالي، هما دمشق وحلفائه من طرف وأنقرة من طرف. سيمثل الجميع نفسه كشعب أو قبيلة أو دين، لكن بلا أرض وبلا مركز يستند إليه. سيسقط الجميع.