العملاء كوسيط تاريخي بين العدو والمجتمع المهزوم

العملاء كوسيط تاريخي بين العدو والمجتمع المهزوم

خلال سنوات حكمه منذ تسلمه الرئاسة، وبشكل خاص منذ مرحلة النظام الرئاسي في صيف 2018، يطرح هوس الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بشن الحروب على كل أشكال ومظاهر الوجود الكردي، العديد من التساؤلات غير السياسية. وقبل طرح التساؤلات، لا بدّ من استدراك المقصود بالمذكور أعلاه، أي هوسه في شن الحروب على كل أشكال ومظاهر الوجود الكردي، لأن بعض المتذاكين سيحيل هذه الجملة إلى أن هناك كرداً يسيرون في شوارع اسطنبول يومياً، وذلك في استمرار للحيلة التاريخية الطويلة حول استمرار المسيحية في الشرق. المقصود أنه يشن هذه الحروب حيثما أمكن له، لكن ما لا شك فيه أن في داخله تموج سلسلة من الحروب القائمة على الاضطهاد الاجتماعي وتجاوز الأهداف السياسية. ولا يمكن فهم تصريحه الاثنين الماضي أنه "في المرحلة الجديدة سنبني تركيا الكبيرة والقوية"، سوى مؤشر على توسيع الحروب المفتوحة اليوم إلى عمق أكثر توحشاً وطموحاً باعتبار أن البنية الاجتماعية القائمة للدولة التركية تدرك أنها دولة غنائم كاملة مكتملة الأركان، ولا شيء فيها، حتى متر من الأرض، خارج الغنيمة الناتجة ليس فقط عن الاستيلاء، بل في الاقتلاع السكاني والإبادة.

 

طيلة القرن الماضي، خاض الكرد عشرات الحروب، وأشعلوا مثلها من الثورات، ارتكبت خلالها الدول الحاكمة فظائع ما زالت فصولها الأكثر وحشية غير مؤرّخة، لكن بالإمكان الاستدلال إلى قالب القصة التي روتها الأنظمة الطاغية لتبرير شن هذه الحروب رغم أن الحصيلة الإجرامية واحدة، وهي القصة السياسية التي لها بداية ولها نهاية. درجت العادة على أن تتوقف الحرب حين يزول الخطر المعلن عنه. هكذا كان حتى في عهد صدّام حسين، الأكثر دموية وإجراماً علنياً، ثم يقوم قادة هذه الدول بإيجاد عملاء لهم من بين الكرد لإبعاد تهمة حرب الإبادة العِرقية عن أنفسهم ووضعها في إطار سياسي ضد حزب ما. هكذا فعل صدام حسين حين اعتمد على فرق المرتزقة، وهكذا فعلت تركيا منذ انقلاب 1980 بتشكيل حماة القرى، ومثلها فعلت إيران بعد الثورة الإسلامية.

 

إلى جانب الحروب المعلنة، سيّرت تركيا حربها السرّية على الكرد تحت غطاء من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والأخير ساهم في هذه الحرب عبر المعدّات المقدمة إلى تركيا طالما أن الأمر يجري سرّاً، وطالما أن تركيا تلتزم بالقتل دون إقامة المظاهر الاحتفالية. كانت طبقة العملاء الكرد في كل الحالات السابقة تمنح دول الاحتلال صك براءة من شن حروب الإبادة، فكان يتم الحفاظ على مكتسبات هذه الجماعات وتصديرها، وهذه الطبقة العميلة تحوَّل وجودها مع الزمن إلى مطلب اجتماعي كردي، فوجودها يرسم حدوداً للحرب. بِهم تنتهي الحرب.

 

في أسوأ حروب الإبادة التي تعرض لها الكرد في تسعينيات القرن الماضي في شمال كردستان (ضمن تركيا)، وقبلها في جنوب كردستان (العراق) خلال حملة الأنفال عام 1988، كان جزء من المجتمع ينجو بفضل الطبقة العميلة المرافقة للحملات العسكرية ضد الحركات التحررية من الاستعمار الوطني. نوعاً ما، حافظت هذه الظاهرة على رسم حدود للحرب، واختلاق قصة سياسية لها، في المقابل هذا الاختلاق لهذه القصص كان ممراً لنجاة مجتمع ما بعد الحرب، أي المجتمع المستسلم.

 

وحدها تركيا في عهد أردوغان ترفض استخدام العملاء الكرد الذين يدورون في فلكها. لم يلجأ إلى التستر بالعملاء كما فعل كل قادة الدول المحتلة لكردستان، من مصطفى كمال أتاتورك إلى محمد رضا بهلوي وما تلاهما من الحكّام. كان صديقه أحمد داوود أوغلو، أيام توزيره للخارجية ثم رئاسة الوزراء، أحرص من هذه الناحية، وله ظهور متكرر في آمد وغيرها من المدن الكردية خلال إحياء موالد صوفية.

 

لا يخوض أردوغان حروبه تحت شعارات سياسية كما فعل أسلافه ورفاقه في تركيا والعراق وإيران وسوريا، بل يسيّر نوعاً من الحرب غير المعهودة، الحرب القائمة على أسباب غامضة، يرجح أن تكون نفسية في غالب دوافعها، كما حروب أردوغان ضد كل مظاهر الوجود الكردي. وتصنيف حروب أردوغان في الخانة النفسية المرضية يدعمه الاستمرار في الحرب بعد زوال ما يمكن أن تعتبره الدولة "الخطر الكردي". الحرب تبقى مستمرة حتى بعد هزيمة الخصم. الحرب تستمر داخل بيوت المدنيين وفي الشوارع التي يسيرون فيها وبين الحقول والبساتين وأشجار الزيتون في عفرين، وفي الكهوف الجبلية الفارغة. هذا ما يجري في عفرين التي تم تسليمها إلى طبقة من المقاتلين السوريين الذين يشكلون استمراراً شامياً غريباً لمرتزقة كتائب القوزاق في الجيوش الروسية والإيرانية خلال القرن التاسع عشر. يأمرهم أردوغان بعدم إيقاف الحرب حتى بعد مرور أكثر من عام ونصف على نهايتها. يطلب منهم الاستمرار في التنكيل بالمجتمع، يخطف يومياً رجالاً إلى مراكز الاعتقال للقوزاق الجدد للتفاوض حول فدية اعتباطية، للسماح له بالعيش، ولكي يكون الأمر جاداً لذويه يتم تعذيبه وإرسال صور لهم، ورمي جثته على الطريق في حال عدم الاستجابة. قصص خطف الفتيات والنساء ما زال مسكوتاً عنها، وتتفادى معظم العائلات الكشف عن الأمر على أمل أن يكون الخطف مؤقتاً ويتم حلها بفدية. هذه الحرب ليست سياسية. في السابق، خلال الحقبة التركية ما قبل أردوغان، كانت الحرب تتوقف على المجتمع بعد الهزيمة العسكرية حين يقول أفراد المجتمع نحن أتراك. النموذج التركي الأردوغاني لا يسمح بهذا الشكل من الاستسلام. لا يصدّق ذلك ولا يريد لهم البقاء حتى مستسلمين. يطلب الاستمرار في الحرب على الفقراء الذين لا حيلة لهم للخروج من قراهم.

 

هذه الصورة العسكرية الهمجية الكامنة خلف "المدنية الرعاعية" التي تنتج طائرات بيرقدار، وتشترك في إنتاج سيارات مرسيدس العسكرية للجيش، ينبغي تناول اللحظة التي وصلتها حالياً ضمن مسيرة الجمهورية المؤسسة على جماجم شعوب الأناضول وكردستان وأرمينيا، والخلاصة أن لا أحد ممن يصفهم الكرد بالطغاة الترك والمستتركين، وهم أنفسهم أبطال "الأمة" لدى المؤسسة التركية، لا أحد منهم وصل إلى ما بلغه أردوغان من تحطيمٍ منظم للمجتمع الكردي.

 

ومنذ أول حرب كردية تركية قبل أكثر من ألف عام (سنة 1042 م)، كان دائماً هناك عملاء من الطرفين لهم فائدة مزدوجة. بهم تتوقف المعارك عند حد معين. بهذا المعنى، أبقى الأيوبيون ولاية ماردين وسنجار وآمد وحصن كيفا في أيدي الآرتقيين التركمان. ولاحقاً حين استولى الترك على كردستان بعد الأيوبيين، بقيت ولايات تحت أيدي الكرد، مثل حصن كيفا وبدليس. كذلك الأمر بالنسبة للأرمن الذين بقوا محافظين على وجودهم بالمعنى الجسدي والجغرافي، بفضل قبول السلطة الحاكمة بالفئة المستسلمة، أو المتواطئة مع الدولة، إما نتيجة الخوف أو طمعاً في النفوذ والمال. وبقدر ما كانت شريحة العملاء عبر التاريخ مشينة اجتماعياً لدى سرديات التيارات القومية، بقدر ما كانت مفيدة في الحفاظ على التركيبة الديمغرافية، بشكل نسبي، والتخفيف من دموية الانتقام السلطوي من المجتمع. وما مقولات الأنظمة أن الشعب الكردي عظيم لكن قياداته عميلة وخائنة، إلا نتاجاً لذلك الميراث التاريخي للعلاقة بين العمالة والسلطة. ما حدث للأرمن في عام 1915 كان قرار السلطة بأنهم لن يقبلوا بالشريحة الاستسلامية ولا العملاء ولا الموالين لهم من الأرمن. الإبادة الشاملة جرت على هذا الأساس النظري.

 

من هنا، أردوغان أكثر خطورة وإجراماً من مصطفى كمال وغيره من قادة الجمهورية.

 

للمرة الأولى تتكامل في تاريخ الكرد المعاصر حرب اجتماعية شاملة مكثفة خلال عام واحد وليس خلال سنوات من الهندسة السكانية كما جرت العادة لدى القادة الترك الآخرين. إبادة منظمة ليس بالقتل وحده، بل القتل أحد أدوات هذه الحرب، إنما إدخال المجتمعات الكردية تحت إذلالٍ يومي مستمر. هذا النوع من الحرب العارية جرى نقله من آمد ونصيبين وجزير، إلى عفرين ثم سريكانيه/ رأس العين وتل أبيض. لا يتورع أحد أنصار القوزاق في الكتائب التركية من الكتابة علناً: "سنربط نساءهم عرايا على طريق سلوك"، وسلوك هي بلدة تقع في منطقة تل أبيض على الحدود مع تركيا. وحتى مع الفقراء الأتراك الذين كانوا يوماً ما مع صديقه السابق فتح الله غولن، يستهدفهم في معيشتهم وقوت يومهم رغم اقتلاعه كافة مؤسسات خصمه من البلاد، مع ذلك، لا يتوقف عن إلحاق العقاب بهم، والأرجح أنه لا يستطيع التوقف. هذا بمثابة هوس نفسي بالتمثيل بالجثث.   

 

هذا ما يجعل الحرب الأردوغانية على الكرد حرباً "ما دون سياسية". إنها حرب لا يقبل فيها بإعطاء أي دور – تمثيلي صوري – حتى لعملائه. والعملاء أنفسهم لا يقومون بدورهم التقليدي كوسيط بين العدو والمجتمع المهزوم. وهؤلاء فقدوا شروط العمالة وتحوّلوا إلى "أدلّاء" طرق للعدو إلى بلادهم.

 

في مثل هذا المستوى من الخطر الوجودي، لا سبيل سوى المقاومة الشاملة، وهي ليست المقاومة المعروفة في الأدبيات السياسية والحزبية التحررية، بل ما لم تبلغه بعد أي مقاومة موجودة، وهي ليست الحرب في عمقها، بل التراجع المنظّم ميدانياً لتفادي خوض "المعركة النهائية" في الوقت الحالي، وتصعيد شامل ثقافياً واجتماعياً.