حسين جمو
في مقدمته للطبعة العربية لكتاب "سيَر الأكراد" للأمير عبد القادر رستم الباباني، يطرح نوري كريم، سؤالاً ذكياً دون أن يقدم إجابة مقنعة. يقول إنه ليس للإمارات الكردية التاريخية، مثل أردلان التي ظلت قائمة في إيران لمدة تقارب /500/ عام، وبابان في كردستان العراق الحالية، ليس لهذه الإمارات جذور تذكر في ذاكرة الجماهير ووجدانهم مثلما ترسخت الجذور العميقة والدافئة تجاه الملك محمود الحفيد وحكومته (1919) والقاضي محمد وجمهوريته (مهاباد) وثورة أيلول وقائدها ملا مصطفى بارزاني.
تعليقاً على السؤال، يطرح نوري كريم عدداً من الإجابات المحتملة، لكنها غير واضحة، من بينها أن ما أسماها "الجماهير الكردية" كانت مستاءة من الضرائب وأعمال السخرة التي كانوا يقومون بها لتأمين حصة بغداد واسطنبول وأصفهان من الضرائب دون تأخير. وهنا يحاول القول إن الاستياء نابع من أن هذه الضرائب تذهب للحكومات المحتلة لكردستان، خلال الفترة من 1450 إلى 1850 على وجه التقريب. ذلك أن تاريخ الوقائع الكردية حتى منتصف القرن العشرين، تاريخ سياسي رومانسي، خضع لإعادة صياغة مفككة ومجزأة مع بدايات الفرز القومي في القسم المسلم من الدولة العثمانية، مطلع القرن العشرين. وهذا التاريخ يؤرّخ وقائع الاحتلال (العثماني – الإيراني) أكثر من انشغاله بتاريخ المجتمع. فطبيعة الخطر الوجودي الذي لم ينقطع فعلياً منذ فقدان الكرد السيطرة على مصائرهم قبل قرون طويلة، أدت إلى صياغة غير نقدية وغير بحثية للتاريخ، وتوجيه حمولة التوجيه والتعبئة ضد الاحتلال الخارجي.
ولم يتم تغيير الأسلوب الحكائي للتاريخ حتى مع ترسخ قناعة أن الاحتلال سيطول والمعركة قد تدوم إلى "آخر الزمان"، وعليه لم يتم طرح الأسئلة الحرجة الداخلية سوى بشكل محدود، أهمها على شكل نقد طبقي عنيف موجه من التيارات السياسية الجديدة في القرن العشرين، ضد الإقطاعيين والآغوات، واعتبار هذه الفئة المسيطرة خلال الفترة الإشكالية (حتى مطلع القرن العشرين على أقل تقدير) متواطئة مع الطبقات الحاكمة العليا (العثمانية والسلالات الحاكمة في إيران).
لكن، حتى هذا التفسير الطبقي لم يترافق مع دراسات تحليلية كافية حول دور الآغا والشيخ في المراحل التاريخية الرئيسية، وليس فقط الاكتفاء بوقائع آنية، مثل موالاة عشائر "سورجي" للبريطانيين والحكومات العراقية المتعاقبة ضد "بارزان"، ولم يتم تقديم سوى مساهمات بحثية محدودة بخصوص الوضع التاريخي، اقتصادياً واجتماعياً لمنطقة "زيبار"، للخروج بتفسير مادي لتموضع زعمائها السياسي، وعدم الاكتفاء بالنتيجة النهائية فقط، أي الحرب ضد الحركة القومية.
مثل هذا التسطيح للجانب الاجتماعي يسود بقاع كردستان الأخرى أيضاً، وهذا يؤدي إلى العجز عن وضع سياسات متوسطة وبعيدة المدى لتجاوز معضلة المراكز الاجتماعية العاملة لحساب الاحتلال في كل أنحاء كردستان. فأسهل ما في الأمر اكتشاف "الخائن"، وأصعب ما فيه تحليل بُنية وطبيعة الانسلاخ عن الحراك السياسي التحرري.
في الفترة التي تم فيها تدوين الملامح العامة للتاريخ الكردي بصورته الحالية، في مطلع القرن العشرين، كان هناك فائض من قوة الرواية بحيث كان بالإمكان حتى تغيير تاريخ عيد النوروز، من 21 آذار إلى 31 آب. ولم يتم ذلك فقط لأن كلاً من خليل خيالي وممدوح سليم، لم يستمرا في التعبئة الكتابية في مجلة "جين – الحياة" لتحقيق هذا الغرض. ولو أن جمعية خويبون التي تأسست بعد بضع سنوات قد تبنت مثل هذه الدعوى، وجرى إعلان مراسيم هذا الإبداع التاريخي خلال ثورة آرارات، لكان هناك عيد إضافي اليوم إلى جانب النوروز. الواقع أن جمعية خويبون، عبر كاميران وجلادت بدرخان، بشكل رئيسي، قامت بصياغة الجانب الرومانسي من التاريخ الكردي المتوارث إلى اليوم، ولم يخضع لأي تحديث منذ ذلك الوقت سوى محاولات محدودة، أبرزها الرؤى التي صاغها عبدالله أوجلان، في سلسلة من الكتب، رغم أن حزبه لا يزال متأخراً عنه بشكل كبير في هذا المجال. كذلك لبعض مؤلفات كمال مظهر أحمد وأيوب بارزاني وفريد أسسرد وجمال نبز ومسعود محمد، قيمة كبيرة في إعادة صياغة سيرة المجتمع والثورة، وكسر الحلقة الصلبة التي أسستها "خويبون"، ومن المهم الاطلاع على الدور المعرفي للجمعية وقادتها في كتاب جوردي غورغاس (الحركة الكردية التركية في المنفى)، لأن من رفعته هذه الجمعية في التاريخ بقي لامعاً وعصياً على إخضاعه للنقد والمراجعة، ومن أخفته هذه الحركة عن أعين مترصدي "الخونة" بقي مخفياً كما في حالة يزدان شير.
إلا أن واقعة صغيرة وهامشية في الأيام الماضية، كشفت أن مهمة إعادة سرد الحكاية ليست سهلة، فمجرد تطرق الفنان شفان برور إلى طبيعة المجتمع الكردي حتى منتصف القرن العشرين، وقادة الحركات القومية من حملة الألقاب العشائرية والدينية، أدت إلى إطلاق حملة عليه شارك فيها بعضٌ ممن ينحدرون من هذه العائلات. ووصل الأمر بابنة جلادت بدرخان إلى أن تخاطب شفان برور: من أنت حتى تتطاول على هؤلاء الرموز؟!.
إن هذا المنهج التحريمي المنتشر يمنع طرح الأسئلة الحرجة والبحث فيها، ويصبح تساؤلاً عابراً مثل أن حاجو آغا، صاحب الدور المحوري في التأسيس للحركة القومية الكردية، كان لا يعرف القراءة والكتابة بأي لغة من اللغات التي يتحدث بها، جناية قومية على شخصية تاريخية، رغم أن مثل هذا النقد يكون المقصود به "الأمة – الجماعة" التي تنتج القيادات، وليس شخص حاجو نفسه الذي لا يمكن نكران دوره في منع سيطرة دهام الهادي على الجزيرة. وهذا يضعنا أمام واقع غير مريح، وهو أن هناك من يعتبر شخصيات تاريخية عامة، مثل حاجو آغا وجلادت بدرخان والشيخ سعيد بيران، إرثاً عائلياً وليس إرثاً لأمّة لا تزال تكافح على درب هؤلاء وتحاول تطوير أساليبها في الكفاح عبر تنظيماتها السياسية.
إن معظم تكوينات الحركة السياسية الكردية، اليوم، هي امتدادات، بشكل أو بآخر، لجمعية خويبون. بعض هذه الأحزاب تبنت أساليب خويبون، وتكاد تقتصر اليوم على حزب العمال الكردستاني، وبعضها انتهج عقلية خويبون الانتقائية، وهؤلاء كثر، وزادوا في الطنبور وتراً جديداً، وهو تحويل الحاضر أيضاً إلى تاريخ مقدّس. لذلك، نجد أنفسنا عاجزين اليوم عن الإجابة على أسئلة غير بسيطة، لأن القالب القومي التقليدي قدم لنا إجابات في غاية البساطة، وأحياناً قمة في التسطيح، لذلك لا نعرف حتى اليوم دراسات ومتابعات عن التحول الغامض الذي دفع بالشيخ سعيد النورسي إلى اختلاق شخصية "سعيد الجديد"، ذلك أنه كما في حالة حاجو آغا، كان يعبّر عن مرحلة تمر فيها أمّة، وليس خياراً شخصياً كما يجري تصويره حتى اليوم. لماذا كانت آمد/ ديار بكر خارج التراث الأدبي الكردي حتى عام 1925؟ لماذا هيمنت جزيرة بوطان على التراث الكردي الشمالي بكلّيته؟ ولماذا قام حزب العمال الكردستاني بكسر هذه الهيمنة لاحقاً لصالح آمد؟
هناك أسئلة أكثر بساطة حتى، باقية بدون إجابات، بسبب القوالب الكلاسيكية للرواية القومية، مثل السؤال المهم الذي طرحه نوري كريم في مقدمة كتاب "سِيَر الأكراد"، ولم يفلح في الإجابة عنه، أو تفادى الإجابة – على الأرجح – بسبب القوالب الرومانسية المصاغة للتاريخ، تحت ذريعة سائدة هذه الأيام، وهو أنه لو قمنا بنقد كل شخصية تاريخية فلن يبقى لنا شيء نتفاخر به! وكأن النقد هنا يوازي التحقير والتخوين.
من بين الدويلات العديدة للكرد التي لم تترك أثراً في الذاكرة الشعبية، وليس ذاكرة الكتب، هما إمارتا أردلان وبابان، ذلك أنهما، أكثر من غيرهما من الإمارات الشقيقة في ذلك الوقت، كانتا تمثلان الحكم القبلي القائم على التقسيم الطبقي للمجتمع، حيث يقيم الفلاح في قاع المجتمع الطبقي ويعامل معاملة غير بشرية، ومعرضاً للقتل بدون حسيب من ثلاث سلطات: الدولة، قادة الحاميات العسكرية، الحكام المحليون. ولم تنكسر هذه الطبقية سوى مطلع القرن العشرين، وأول من قام بكسرها لم يكن من الدعاة القوميين الأوائل، بل شيخ الطريقة النقشبندية، عبدالسلام بارزاني.