حسين جمو
لم يتحدث رئيس دولة أو أي مسؤول من الدرجة الثانية أن تفشي وباء "كورونا" في العالم "فرصة لنتقدم إلى الأمام" سوى رجب طيب أردوغان.
العديد من أصحاب النوايا الحسنة لن يأخذوا أبعاد كلام أردوغان سوى أنه من باب إدارة أزمة تفشي "كورونا"، ذلك أن النظام السياسي التركي يصدّر الكثير من البلاهة المعرفية لإخفاء شكله المتقادم منذ تأسيسه عام 1923 (الجمهورية المنتمية للقرن التاسع عشر إلى اليوم)، وتمويه مضمونه القومي الأحادي.
في فبراير، شباط 1945، أي قبل أسابيع من نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حسمت النتيجة الميدانية لصالح الحلفاء والسوفييت، أعلنت تركيا الحرب على دول المحور!
كان إعلان الحرب كاريكاتورياً، وانتهازياً. وهذه الانتهازية لم تزعج أرباب القرار في معسكر المنتصرين، ويطيب لهم أن يروا تركيا وقد قاومت كوابيس التاريخ طيلة سنوات الحرب الثانية، ولم تكرر خطأ الحرب الأولى، وتحملت انتصار السوفييت على النازية، فلا ضير من التصفيق لها لعدم دخولها الحرب في نهايتها. الواقع أن قبول تركيا في معسكر المنتصرين بشكله التهريجي الذي حصل كانت هدية بريطانية جديدة لا أكثر، لحسابات صغيرة، فيها جانب يعكس عمق التراث السياسي البريطاني. لكن الأهم أن تركيا، بقيادة العقل المدبر للجمهورية، عصمت إينونو، أجلست نفسها على طاولة المنتصرين في الأمم المتحدة المشكّلة حديثاً قبيل نهاية الحرب بشهور قليلة.
إذاً، ما الذي كانت تفعله تركيا طيلة سنوات الحرب العالمية الثانية؟
بالنسبة لإينونو، ورئيس الأركان فوزي جقمق، وتحت ظلهما الرجل الذي حرص على التمايز عنهما، جلال بايار، كانت بداية الحرب عام 1939، "فرصة تركيا" لتحقيق المستحيل، والقفز إلى صفوف الدول الكبرى بعد أن تخرج الدول المتورطة في الحرب إما مدمَّرة مهزومة أو مدمَّرة منتصرة. لكن، آمال الطبقة السياسية تحطمت رويداً رويداً بسبب عدم جاهزية تركيا للنمو حتى حين كانت تشبك مع النازية والسوفييت والبريطانيين والأمريكيين، معاً، في وقت واحد، خلال سنوات 1939 – 1943.
كانت هناك فعلاً فرصة لتركيا لتحقق قفزة إعجازية، اقتصادياً وتجارياً. غير أن ما جعلها تراوح مكانها أيام كانت هناك فرصة حقيقية، قبل أن تتحول إلى انتهازية تهريجية في النهاية، أن التمدن التسلطي الذي تم فرضه على البلاد منذ اعتلاء مصطفى كمال السلطة، أي قبل أقل من عقدين من الحرب الكبرى الثانية، نتج عنه نمو اقتصادي عالق في تلبية الاحتياجات المتزايدة الجديدة، فضلاً عن انشغال الطبقة الحاكمة، بكافة قطاعاتها، تصفية بقايا هواجس أنور باشا، فكان انشغال العالم بالحرب العالمية الثانية "فرصة" لاستكمال هذه "المهمة المقدسة"، فصدر قانون قروسطي على طريقة العثمانيين في مرحلة ما قبل مرسوم التنظيمات، بفرض ضرائب أطلق عليها ضريبة رأس المال، بداية من عام 1941 – 1942، وتم فيها استهداف شريحة التجار والحرفيين الأرثوذكس واليهود في المدن الساحلية. صدر القرار الإلزامي، وتعين على السكان دفع الضرائب خلال 15 يوماً، وإذا لم يتم الدفع خلال شهر واحد، يتم القبض على المتخلفين عن الدفع وترحيلهم إلى معسكرات تكسير الحجارة في آش قلعة بولاية أرضروم.
كانت قيمة الضرائب على المسيحيين مدروسة بعناية، وتفوق قدرة أي تاجر أو حرفي على الدفع. بعبارة أخرى كانت إبادة اقتصادية باسم الدولة والتنظيم الاقتصادي، وسرعان ما تم توجيه ضربة قاتلة لأهم نافذة تجارية لتركيا على العالم، حيث كان بقايا التجار الأرثوذكس، الناجون من المذابح والتبادل السكاني، إلى جانب المجموعة اليهودية الصغيرة، قناة تركيا المالية في جلب العملة الصعبة خلال الحرب.
وعلى حد تعبير برنارد لويس في كتابه "ظهور تركيا الحديثة": "كان من أكبر المستفيدين من الحرب فريقان نالا أكبر الأرباح هما: كبار المزارعين، الذي ربحوا كثيراً من ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية، والتجار والوسطاء في اسطنبول، الذين كانوا في وضع يمكنهم من استغلال كل ارتفاع في قيمة الصادرات التركية، ومن أي نقص حاد في الوردات الضرورية. كان المزارعون جميعهم تقريباً من الأتراك المسلمين، وما زال التجار إلى حد كبير، إن لم يكن كلياً، (حتى صدور قانون الضريبة)، من أعضاء الأقليات الثلاث: اليونانيين واليهود والأرمن".
كان على المجموعة الحاكمة، المحركة لهياج العوام على الأقليات المتبقية، والصامتة على وصف وسطاء التجارة والحرفيين بـ"أتراك اسماً فقط" في الصحافة التركية الموالية للنازية، كان عليها إعادة تنظيم شبكة الوسطاء التجاريين في ذلك الوقت الحرج دولياً، وكان نجاحها محدوداً ومخيباً، ليس فقط على صعيد المصادر الصغيرة – والكثيرة – الجالبة للعملة الصعبة، بل في تنظيم الاقتصاد ككل.
مع ذلك، يلتف برنارد لويس، على الوثائق والوقائع المتوفرة لديه، بخصوص هذه الإبادة التجارية، ليخلص إلى التقليل من شأن هذا "الأمر المؤسف" على حد تعبيره عبر الاستدراك أن "تجربة تركيا الجمهورية في الاضطهاد أقل شأناً وأيسر حالاً من أوروبا التي كانت تسيطر عليها ألمانيا هتلر".
في أيام "كورونا"، التي ثبت أن أغبى إجراء أو خطاب بشأنه هو تحديه والاستهزاء به، على مستوى خطاب الدولة، لاحت لأردوغان – وليس لغيره – الفرصة الذهبية التي كانت تنظرها تركيا منذ "الفرصة المهدورة" في الحرب العالمية الثانية: "نحو نظام جديد حيث لن يبق أي شيء كما كان. نظام سياسي واقتصادي واجتماعي جديد سيتم بناءه". أما ناسخ خطابات أردوغان، مولود جاووش أوغلو، فكتب في مقالة نشرها في صحيفة "واشنطن تايمز": "النظام العالمي كان يعاني قبل كورونا العديد من الصعوبات. تركيا كثيرًا ما دأبت على القول بضرورة إصلاح ذلك النظام، وليس هذا فحسب بل وقالت إن طريقة تشكيل مجلس الأمن قد عفا عليها الزمن، إذا أن العالم أصبح أكبر من خمسة".
ما هي الفرصة التي ينتظرها أردوغان؟ أن تنهار دول واتحادات تحت ثقل الجائحة، وإعادة تشكيل النظام العالمي – بالأحرى تعديله – لتكون تركيا دولة عظمى- على فرض أنها ستكون الناجية الوحيدة من "كورونا" بسبب النظام الصحي الأسطوري لديها- وأن يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.
فرصة الحرب العالمية الثانية أهدرت بسبب أيديولوجيا الدولة والحمولة العنصرية في بنية الجمهورية، وانقسام الجيش بين مؤيد للحياد في الحرب، وهم كبار الضباط، وبين أنصار دخول الحرب بداية اندلاعها إلى جانب ألمانيا، فضلاً عن عجز الضباط عن التعامل مع فوضى نظم التسليح الخاصة بالجيش، وعدم توفر الأموال الكافية لتأهيل البنية التحتية المترهلة في كافة أنحاء البلاد.
تحولت الفرصة الكبيرة إلى تصفية مجموعة من التجار والحرفيين.
لدى أردوغان ملايين ممن يعتبرهم – وفقاً لسلوكياته وإجراءات سلطته – خونة الجمهورية. ميدان فرصة القرن الأردوغانية لن يكون الخارج، بل – مجدداً – سيكون الداخل. وقد تصبح الفرصة نفسها للطليعة المنظمة الممثلة للمهمشين والمغلوب على أمرهم في الداخل، لإنهاء قرن من مجازر الفرص.