الوباء وهشاشة الحياة في المدينة

الوباء وهشاشة الحياة في المدينة

 

حسين جمو

 

كان مشهداً عابراً في سياق الأخبار المتدفقة عن فيروس "كورونا" حول العالم، طابور ضخم يضم أفراداً وعائلات في سيارات يقفون على حواجز للشرطة الفرنسية على مخارج المدن، في طريقهم إلى القرى الريفية.

 

الوقوف على هذا المشهد يقدم صورة متسرِّعة نوعاً ما، أنَّ كورونا "وباء المدن". بعض السكان الأفارقة ممن تحدثوا لوسائل إعلام غربية يتداولون عبارة أكثر استسهالاً، وهو أن "كورونا" هو "وباء الأغنياء".

 

في المشهد المقابل، في قلب غابة الأمازون على مسافة أسبوع بالمركب من ماناوس، تقع مدينة كاراواري النائية التي لا يربطها بالعالم أي طريق بري. عند بدء انتشار الفيروس، لم يكن "كوفيد-19" سوى مشكلة بعيدة يسمع بها السكان عبر وسائل الإعلام. لكن منذ الكشف عن أول حالة تسجل في ماناوس قبل أسبوع، بدأ الذعر يدب في أقاصي الغابة الأمازونية في منطقة عانت صدمات جراء سقوط أعداد كبيرة من الضحايا الناجمة عن أوبئة آتية من الخارج، بحسب تقرير لوكالة "فرانس برس".

 

رغم ذلك، لا يمكن مساواة المدن بالأرياف من حيث المساحات الملائمة لانتشار هذا الوباء الأقل فتكاً مقارنة بالأوبئة الكبرى. فاتّباع سياسات التباعد الاجتماعي للوقاية من المرض أو الحد من انتشاره، أكثر سهولة في القرى وبيئة الفلاحين، مع ذلك لا يعني هذا أن تغيير أنماط الإنتاج المعيشية من الرواتب إلى النمط الزراعي، هو وصفة نجاة من الفيروس، لكن قد يتطور الأمر في حال طول أمد الأزمة وعجز الحكومات مالياً، إلى أن يكون هذا الانحدار، إذا صحّت التسمية، من طور التمدن الحديث من حيث الحيز المكاني ونمط الإنتاج، إلى نمط زراعي فلاحي، خط الدفاع الأخير للنجاة من الجوع – بالمعنى الحرفي للكلمة – وتداعياته، اجتماعياً وأمنياً، وطريقاً وحيداً لرفد الفئات المعدمة بما يبقيهم على قيد الحياة. شيء من هذا القبيل حدث في أزمة "الكساد العظيم" بدءاً من عام 1929 حين كانت "الفرقة الناجية" في العالم هم الفلاحون الكسالى – بالتعبير البورجوازي التقليدي – الذين يزرعون ما يحتاجونه للاستهلاك العائلي (الاكتفاء الذاتي) فقط وليس للبيع.

 

ليس متاحاً للجميع هذا الانسحاب "الاستراتيجي" من البيئة الحضرية الفائقة السرعة إلى نمط الإنتاج الزراعي، لكن الصعوبات التي أظهرتها المدينة لسكانها في هذا الظرف يعيد طرح هذا الخيار لفئة غير قليلة، وليس كل الراغبين يستطيعون تحقيق هذه "الردّة"، فنسبة محدودة فقط ممن لديهم أصول زراعية وأراضٍ قابلة للزراعة، يمكنها الإقدام على هذه الخطوة. حتى القرى الصغيرة التي ما زالت تحتفظ بطابعها الاجتماعي العائلي – العشائري، لم يعد كل السكان من المزارعين والفلاحين، بل نسبة الأخيرة، المعتمدين على الزراعة في حياتهم المعيشية، لا تتجاوز /30/% في قسم كبير من القرى حول العالم.

 

إن هذا التصور قد يبدو مبالغة في التشاؤم حول التحول الاجتماعي المحتمل الناجم عن الوباء الحالي، وهذا صحيح في حال تم استبعاد الآثار الجانبية لهذه الكارثة، وهذه الآثار الجانبية هي التي سيكون لها الكلمة الفصل في تحطيم قوى منتجة وتنمية قوى أخرى هي حتماً ستكون أقل حجماً وفق مقارنة القوى المنتجة العاملة في المدن والقوى المنتجة الزراعية. حين ينتهي الوباء، بعد عام ونصف حسب التقديرات، ويعود النشاط الاقتصادي إلى الاستئناف، سيجد ملايين الموظفين والعمال أنفسهم وقد تم الاستغناء عنهم، بسبب فائض قوة العمل عن حصة الأجور المخصصة لهم لدى مالكي خطوط الإنتاج. وفي تقدير أولي للأمم المتحدة، فإن الرقم يضم /25/ مليون شخص سيفقدون وظائفهم بشكل دائم جراء الوباء.

 

صدمة انعدام الأمان المعيشي في المدن التي فاقمها الوباء يفتح الباب أمام قطاعات كبيرة من العائلات فكرة الخلاص الجذري من محورية "الراتب النقدي" في المعيشة، والذي ثبت أنه هش أكثر مما كان متوقعاً. 

 

هذا الأمر مرشح بقوة ليحدث في الدول ذات البنى الاقتصادية المتقدمة، والتي تتمتع بمنظومات حقوقية موازية، ونقابات تحمي العاملين بالأجر، وحكومات تتولى دفع أجور المتأثرين بالوباء.

 

أما في البلدان ذات الهياكل الاقتصادية غير المتوازنة، والمهترئة إدارياً وخدمياً، والمثقلة بالديون والحروب والانقسامات الاجتماعية السياسية، فإن اتباع نصائح منظمة الصحة العالمية بخصوص مواجهة الوباء سيكون له تأثير فوري في سحق الطبقة العاملة التي تعمل بنظام الأجر اليومي أو الأسبوعي أو النسبة في غالب الأحوال، وهي الطبقة العاملة القديمة والمنتشرة في الدول غير المستقرة. في المقابل، هذه الفئات ستكون الأسرع في العودة إلى أعمالها في حال إنهاء سياسات الحظر. وليس هناك من نصيحة سهلة يمكن تقديمها في هذه الحالات تجاه الإجراءات الخاصة بمواجهة هذه الجائحة الصحية بدون القيام بـ"خرق أخلاقي". ليس لهذه الدول القدرة على وضع ميزانيات موازية فورية لمساندة القطاعات المتضررة، شركات وأفراد، وفي الوقت نفسه تجد حرجاً دعائياً في تبني سياسة "مناعة الحشود" داخل حدودها، أو الأجزاء التي تسيطر عليها من هذه الحدود.

 

هذه الصورة الموغلة في السلبية، ظاهرياً، تستند إلى بضعة معطيات أولية بسيطة، معاشة، بالنسبة للمجتمعات القائمة في الدول الهشة صحياً وسياسياً. فحين سئل رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، عن الإجراءات التي ستتخذها حكومته، رفض فرض أي عزل أو إيقاف للنشاط اليومي الاعتيادي، أو الطلب من السكان التزام منازلهم. فعلياً، من الصعوبة الاعتراض على ما قاله: "إذا أغلقنا المدن، سننقذ سكانها من فيروس كورونا من جهة، لكنهم سيجوعون حتى الموت من جهة أخرى". في رؤية أخرى له عن هذا الوباء، كان أكثر تحديداً في الخوف من أن يؤدي الفيروس، وتداعياته على العالم، إلى انهيار اقتصاديات الدول النامية.

 

في حالة سوريا، التي يوفر لها انهيارها الاقتصادي مناعة أكبر من التداعيات الكارثية مقارنة بدول أخرى مترنحة، بدأت الحكومة المركزية بتطبيق إجراءات العزل في بعض المدن، بدون تقديم أي بدائل لأولئك الذين يعتمدون على العمل اليومي في تأمين لقمة العيش. إغلاق الأسواق والمناطق الصناعية وعزل المدن، إجراءات تتوخى السلامة الصحية للسكان، وتعرضهم للتجويع في الوقت نفسه في حال طال أمدها شهوراً. في مناطق الإدارة الذاتية، لم تتضح بعد أي إجراءات بخصوص العزل الحضري للمناطق وإغلاق الأسواق. كذلك الأمر بالنسبة للمناطق الخاضعة "للاحتلال" التركي، وهي مناطق تعتمد أكثر من غيرها على المساعدات القادمة من الخارج، لذلك قد تكون الأقل تأثراً في حال تم تطبيق سياسات العزل الجغرافي.

 

بسبب هذا التناقض في اتجاه الأمور في العديد من الدول الفقيرة إلى إغلاق الأسواق، مع ما يعنيه ذلك من تدمير للطبقة العاملة من جهة، ومحاولة تأمين الصحة الجسدية للسكان من الفيروس من جهة أخرى، فإن تخفيف تأثير إجراءات الدول على المجتمعات تتطلب أعلى درجات التضامن الاجتماعي بين السكان بحيث يصبح المجتمع أكثر مناعة في الاعتماد على الدولة، لأن عكس ذلك يعني ابتلاع الدولة – غير المسؤولة- للمجتمع وإعادة تشكيله بصورة تعكس بقاءها.