الاستجابة النفطية للسياسات الأمريكية

 

لم تشهد أسعار النفط سوى تغيرات طفيفة منذ بداية القرن العشرين لغاية بداية العقد السابع منه، وذلك على الرغم من حدوث حربين عالميتين وحدوث تطورات تكنولوجية هائلة خلال تلك الفترة، ويعود الفضل في بقاء أسعار النفط شبه ثابتة إلى الشركات الاحتكارية العاملة في مجال النفط والتي كانت تمارس مختلف أصناف الضغوطات على حكومات الدول المنتجة للنفط لإبقاء أسعارها عند حدود دنيا. ولم يكن الانقلاب على حكومة محمد مصدق في إيران والإطاحة بها في بداية خمسينيات القرن الماضي إلا نتيجةً لأفعاله المنافية لناموس الاحتكارات النفطية العالمية. فقد اخترق القوانين السائدة بإقدامه على تأمين قطاع النفط في إيران من أجل حماية هذا القطاع الاقتصادي الذي يشهد توسعاً كبيراً على الصعيد العالمي، نتيجة توسع حاجة الأسواق العالمية إلى مصادر الطاقة لتلبية الفجوات التي تتركها توسع العملية الإنتاجية نتيجة الثورة العلمية – التكنولوجية.

 

حاولت مجموعة من الدول المتخلفة المنتجة للنفط وفي مقدمتها العراق إيجاد موقف موحد لها تجاه قوة الاحتكارات العالمية في عام 1960م، وذلك من خلال دعوتها لعقد مؤتمر للدول المنتجة للنفط ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية في بغداد. وقد اتخذ في المؤتمر قرار بإنشاء منظمة تضم الدول المصدرة للنفط، وشهد المؤتمر فعلياً ولادة منظمة الدول المصدرة للنفط (OPEC) من أجل حماية مصالح الدول المصدرة للنفط، إلا أن تلك المنظمة بدت وكأنها ولدت ميتة لأنها لم تستطع خدمة مصلحة الدول التي تمثلها، واستمر هذا الأمر لغاية 1973م، حيث شهد العالم الصدمة النفطية الأولى بسبب التطورات التي شهدتها ساحة الشرق الأوسط نتيجة حرب أكتوبر 1973م وكذلك شهدت الصدمة النفطية الثانية في عام 1979م أيضاً بسبب هام حصل في الشرق الأوسط، وهو وصول الخميني إلى سدة الحكم في إيران وإنهائه لحكم شاه. لقد أدت هاتين الصدمتين النفطيتين في بادئ الأمر إلى تحقيق مدخرات مالية هائلة لدى الدول المصدرة للنفط، وسرعان ما بدأت هذه المدخرات بالتراجع بعد عام 1986م بتأثير الصدمة النفطية المعاكسة التي أدت إلى تدهور أسعار النفط عالمياً وعودتها إلى مستويات مقاربة لما كانت عليها في بداية السبعينيات.

 

إن ارتفاع أسعار النفط في الصدمة الأولى بقرار من السعودية، وذلك عندما امتنعت عن بيع النفط للدول المتعاونة مع إسرائيل وفي المرة الثانية بتأثير من الأحداث التي شهدتها إيران بعد عودة الخميني من فرنسا، يطرح سؤالاً حول كون الارتفاع في الأسعار هو نتيجة قرارات صميمية مستقلة من دولتين متخلفتين منتجتين للنفط ومصدرتين لهما أم من دولتين متخلفتين منتجتين للنفط ومصدرتين لها وحليفتين للدول الغربية التي بدأت بالدخول في أزمة الركود التضخمي من بداية السبعينيات من القرن العشرين؟ وبالتالي فهل كان ارتفاع أسعار النفط هو نتيجة قرارات مضادة للمصالح الرأسمالية أم هو نتيجة قرارات مؤيدة للمصالح الرأسمالية؟.

 

للإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعود إلى الخلف قليلاً، ونتذكر قرار نيكسون في 15 آب 1971م. فقد كان ذلك القرار بمثابة جرس إنذار قوي للاقتصاد الأمريكي، فإن لم تُقْدِمَ السلطات النقدية الأمريكية وبقرار سياسي من توقيف تحويل الدولار إلى الذهب فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستخسر كل مخزوناتها الذهبية، وبالتالي ستفقد كل المكاسب التي حققتها من اتفاقية بريتون وودز. قامت بإطلاق طلقة الرحمة عليها لإنقاذ نفسها. لابد للولايات المتحدة من أجل التخلص من الآثار السلبية للكميات الهائلة للدولار الأمريكي في الأسواق العالمية أن تقوم بتحقيق المزيد من الطلب عليها، ولا شك أن ارتفاع أسعار النفط يعد واحداً من أكثر القنوات التي تحقق هذه المآرب. فالنفط هو سلعة ذات طبيعة دولية تحظى بالطلب المتزايد نتيجة تزايد الحاجة له، وإن ارتفاع أسعارها في الصدمتين النفطيتين كانت بمثابة هدايا قيمة قدمتها دول نفطية متخلفة للرأسمالية العالمية مقابل محافظة الأخيرة على الاستقرار السياسي في تلك الدول. أما فاتورة فروقات الأسعار فكانت تدفع في معظمها من قبل الدول المتخلفة المنكشفة على العالم الخارجي حتى في أمنها الغذائي، أما الجزء الباقي من الفاتورة فكانت تدفعه الدول المنتجة للنفط نفسها عن طريق مقص الأسعار ما بين الأسعار الزهيدة للسلع والمنتجات الخام التي تصدرها إلى الدول المتقدمة والأسعار المرتفعة للسلع والمنتجات المصنعة التي تستوردها.

 

بدت أزمة الطاقة في ظاهرها أزمة تعاني منها الدول الرأسمالية، إلا أنها في حقيقتها لم تكن سوى أزمةٍ مرسومة لتفادي الآثار السلبية على اتفاقية بريتون وودز على حساب الدول المتخلفة، حيث أن الاختلالات التي حصلت في موازين مدفوعات مختلف دول العالم نتيجة ارتفاع قيمة فاتورة النفط كانت في محصلتها لمصلحة الدول الرأسمالية.

 

لقد أدت أزمة الطاقة إلى جانب مجموعة من العوامل الأخرى وأهمها غياب المنهجية الصحيحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية أو ضعفها في الدول المتخلفة إلى بروز أزمة المديونية العالمية التي تظهر حقيقة الاستغلال الممارس والمطبق على الدول المتخلفة التي فشلت معظمها في برامجها التنموية تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية على حدٍ سواء. فلم تدخر الدول الرأسمالية جهداً لنقل الفوائض النقدية التي حققتها الدول النفطية إلى بنوكها وإعادة تحويلها إلى الدول المتخلفة على شكل قروض. فمن أصل فوائض دول (OPEC) البالغة حوالي /30/ مليار دولار في عام 1979م، قامت البنوك التجارية الدولية بتمويل قروض للدول المتخلفة بمبالغ لم تقل عن /24/ مليار دولار في السنة نفسها.

 

إن تغيراً هاماً شهده شكل علاقات الدول المتخلفة مع الدول الرأسمالية بعد الأزمتين النفطيتين وتراكم فوائض النقد في البنوك التجارية الدولية. فقد كانت طبيعة العلاقة مالياً تتميز بأنها كانت محصورةً مع المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير إضافة إلى المعونات التي تحصل عليها بعض الدول من حكومات الدول الرأسمالية مقابل خدمات جليلة مقدمة لها، كالمعونات التي تحصل عليها الأردن من الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك تركيا ومصر، نتيجة طبيعة علاقاتها المميزة مع إسرائيل والدول الغربية على حدٍ سواء. بينما بعد الأزمة النفطية الأولى فقد بدأت الدول المتخلفة تلجأ إلى الأسواق المالية العالمية والبنوك التجارية التي أبدت استعدادها لتوسع نشاطها الائتماني نحو الدول المتخلفة عموماً، خاصةً أن حكومات تلك الدول لم تكن تستطيع أن تخفي احتياجاتها إلى المزيد من الأموال الأجنبية لسد الثغرات التي أحدثتها في خططها التنموية وكذلك للتغطية على الحجم المتزايد من الأموال المنهوبة من الشعب. وبلغت نتيجة ذلك زيادة حجم المديونية الخارجية أرقاماً فلكية. فارتفعت مديونية العالم الثالث من أقل من /70/ مليار دولار في العام 1970م إلى حوالي /480/ مليار دولار في العام 1980م.

ظلت أسعار النفط خاضعة لذبذبات مختلفة خلال الفترة الممتدة ما بعد الأزمة النفطية العكسية لعام 1986، إلا أنها لم تصل إلى ما وصلت إليها في ظل جائحة كورونا الحالية، فقد انهارت الأسعار إلى مستويات متدنية جداً في ظل إصرار الأطراف المنتجة على الاحتفاظ بكميات الإنتاج المرتفعة، وتؤكد هذه الحقيقة على ضرورة بقاء الإنتاج مرتفعاً من قبل الأطراف الأكثر استهلاكاً، ضماناً لرفع حجم احتياطاتها بأسعار متدنية، وتسيير آلة الإنتاج بتكاليف أقل تؤدي إلى تفادي أزمات متوقعة نتيجة تراجع مستويات الطلب في الأسواق العالمية. ويتوقع أن الدول المنتجة تمارس سياسة إرضاء تلك الأطراف اقتصادياً لتضمن استمرار رضاها السياسي.

إنها لعبة الطاقة والسلطة، لن تترك واجهة الاهتمامات المالية العالمية إلى أجل آخر.