تشير بعض المصادر إلى أن الاكتشافات الجغرافية التي انطلقت من القارة الأوربية في نهاية القرن الخامس عشر قد شكلت كارثة اقتصادية وإنسانية على الشعوب القاطنة على السواحل الأمريكية والإفريقية ومدينة ماليندي الماليزية وكالكوتا الهندية. نتيجة الممارسات القاسية التي تعرض لها شعوب تلك المناطق على أيدي القوى الأوروبية القادمة إليها. فقد فرض البرتغاليون على الأفارقة احتكاراً حرمهم من البيع والشراء إلا معهم وبالشروط التي يفرضونها عليهم.
إن ما حققه فاسكو دي غاما، نتيجة دورانه حول رأس الرجاء الصالح في رحلته النهبوية. قد بلغت قيمتها أكثر من ستين ضعفاً من تكاليف البعثة. وحقق هذه النتيجة بسبب ثلاثة عوامل رئيسية وهي:
أولاً- نهب الذهب الذي كان ينتج في معظم المناطق الإفريقية وبكميات هائلة.
ثانياً- تحويل كميات هائلة من المنتجات الاستوائية إلى القارة الأوروبية، مثل العاج وبعض المحاصيل الاستوائية، وذلك مقابل المنتجات الأوروبية المتمثلة في الخمور والبارود.
ثالثاً- تجارة الرقيق الأسود (العبيد) التي كانت أول استثمار دولي لرأس المال على نطاق واسع. حيث تشير بعض الدراسات إلى أن الإفراغ البشري الذي حدث في إفريقيا خلال فترة بدايات اكتشاف رأس الرجاء الصالح يقدر بعدد يتراوح ما بين /60/ مليون و/100/ مليون مواطن إفريقي.
وحدة الهدف والسلوك
إذا نظرنا إلى أضخم نشاط نهبوي في القرن الخامس عشر وهو وصول كريستوفر كولومبس، إلى أمريكا الوسطى في العام 1492م إلى جانب نشاط البرتغاليين للوصول إلى الهند عبر رأس الرجاء الصالح في العام 1498م، فلن نجد اختلافاً في جوهر وطبيعة النشاط الذي مارسه كلاً منهما، فالهدف الذي خرج من أجله كولومبس سنجده مطابق تماماً لما سيخرج دي غاما من أجله بعد ستة أعوام، ويتمثل هذا الهدف في ممارسة النهب والسرقة والغش والإبادة الجماعية بحق الشعوب المتحضرة في أمريكا وإفريقيا والتي كانت تعيش جميعها في مرحلة اقتصادية سابقة للرأسمالية، وتعيش في حبٍ ووئام وتطور طبيعي نحو الارتقاء بالقيم الإنسانية في ظل اقتصادٍ قائم على الاكتفاء. لقد لاحظ الإسبان، الذين كانوا يستهدفون نهب ثروات الهنود الحمر والعودة إلى أوروبا، أن مرحلة التطور والرقي التي وصلت إليها الشعوب الأمريكية تتجاوز كثيراً التطور الحاصل على الأراضي الأوروبية. وكان يظهر هذا الأمر جلياً من خلال المعابد التي أشادها السكان الأصليون في أمريكا والمزدانة بالذهب والفضة وسواهما من المعادن الثمينة. لذلك قرروا الوصول إلى مصادر هذه المعادن الثمينة واستغلالها، بعد طرد أصحابها من السكان الأصليين. وقد حصل هذا الأمر فعلاً، حيث أن الأوروبيين انغمسوا في ممارسة الجريمة المنظمة ضد السكان المحليين المسالمين والمتحضرين، وإنجازاتهم الحضارية، فأجبروهم على العمل في منابع إنتاج المعادن الثمينة ومزارع القطن والكاكاو والبن التي تم تصدير منتجاتها إلى أوروبا، وجردوا دور العبادة من المعادن الثمينة ودمروها.
الهيستيريا الأوروبية في الأراضي الجديدة
بلغ الحال بالأوروبيين في أمريكا مرحلةً هيستيرية بعد أن وجدوا الحجم الهائل من الخيرات التي يملكها أبناء الحضارة الأمريكية من الآزتك والمايا. وقد شجعت الموارد التي تنعم بها الأراضي الأمريكية، الأوروبيين على التوافد نحو القارة المكتشفة حديثاً لتكوين ثروات هائلة عبر استغلالهم لكل الطاقات المتاحة لهم. وانحدروا كثيراً أخلاقياً وإنسانياً لدرجة أنهم فقدوا فيها كل علاقة أو صلة بأي جانب من الجوانب الإنسانية في الحياة، ولجؤوا لإشباع نهمهم اللامحدود في البداية إلى الاستعانة بالأوروبيين أصحاب الجرائم والقابعون في السجون، لممارسة نشاطهم التدميري في أمريكا، ولما لم يعد ذلك كافياً لتوسيع دائرة نشاطهم في السلب والنهب، بادروا إلى أغزر تجارة في القرن الخامس عشر والسادس عشر وهي تجارة الرقيق الأسود (العبيد) من إفريقيا، على متن السفن البرتغالية والإسبانية والهولندية والإنكليزية والفرنسية.
يتأكد لنا من خلال دراسة تأسيس المنظومة الرأسمالية الأوروبية أنها تخصصت منذ بداياتها في عمليات النهب. ومهدت لتشكيل منظومة أوروبية قائمة في الأساس على الصراع الذي يقضي على عدالة توزيع الثروات، أو على اقتصاد الاكتفاء الذاتي، وسارعت حكوماتها إلى جانب طبقة الأغنياء فيها إلى تشكيل الشركات التجارية والصناعية لتزيد من وتيرة النهب الممارس بحق الشعوب الأخرى. وقد تم الاعتماد بالدرجة الأولى في عمليات النهب التاريخي على القوة العسكرية.
هكذا قضت الرأسمالية الأوروبية على ذهنية التعايش السلمي بين الجماعات الإنتاجية والاستهلاكية من خلال تأمين الحاجات بعيداً عن اللجوء إلى ممارسة العنف والإكراه تجاه الآخرين. وقد أسست هذه الرأسمالية لمرحلةٍ جديدة من حياة البشرية عبر تقويضها لمفهوم اقتصاد الاكتفاء الذاتي الذي يركز بشكل أساسي على القيمة الاستعمالية للموارد، والسعي الدؤوب نحو تعظيم مفهوم القيمة التبادلية للموارد، أي تسليع المنتجات وتغيير نزعات المنتجين من أجل الطموح إلى تكوين الثروات. وقد أدرك القائمون على عمليات النهب أن مجرد توطيد مفهوم القيمة التبادلية لن يكون كافياً لتكوين الثروات، وإنما يحتاج الأمر إلى منظومة استغلالية متكاملة تبدأ هذه المنظومة باعتماد التجارة الدولية وتأسيس المؤسسات والشركات التي تسهل وظيفة التجار في عملياتهم النهبوية في إفريقيا وآسيا وأمريكا. لذلك بدأت حكومات الدول الأوروبية الناشطة على صعيد الملاحة البحرية بالتعاون مع التجار وأصحاب رؤوس الأموال في هيئة التعاون ما بين رجال المال ورجال السياسة لإنتاج طغمة مالية وسياسية أفرزت بدورها منظومة كولونيالية بدأت هي بأداء دورها في القضاء على التكوينات الاجتماعية – الاقتصادية المتطورة في الدول الأطراف، التي بدأت بالتكون نتيجة السيطرة الغربية الممتدة خارجاً. وذلك من أجل تعظيم دور الشركات التي بدأت بالتأسيس اعتباراً من القرن السادس عشر.
لقد تحولت البشرية في ظل الواقع الجديد إلى مجتمعات استغلالية منتشرة في جميع أصقاع الأرض. غايتها تجميع الثروة الطائلة بجميع الوسائل والطرق. ودخلت البشرية نتيجة هذا السلوك الإنساني في حالة ٍتتعاظم فيها الحاجات مقابل انخفاض الموارد بسبب احتكارها.
لقد بدأت المدارس الاقتصادية بالظهور من أجل إجراء تحليلاتها وتقديم تبريراتها لعمليات النهب والسلب، بل التأكد في معظم الحالات على أهمية عمليات السلب والنهب. باعتبار أن مفهوم الاقتصاد قد تحول من علم إشباع الحاجات إلى علم تكوين الثروات.
تميز الحضارات الشرقية
عموماً، يمكننا التأكيد على أن معظم المدارس الاقتصادية قد ظهرت في المرحلة التي تلت التوسع الكولونيالي الأوروبي، وفي هذا إشارة واضحة إلى دور هذه المدارس الاقتصادية في تنظيم عملية النهب وعلمنتها إن صح التعبير، أو بعبارة أدق السعي إلى تأمين الغطاء العلمي لتلك العمليات التي كانت غريبة عن السلوك الإنساني، وأصبحت اليوم تشكل جوهر هذا السلوك. لكن ذلك لا ينفي وجود الفكر الاقتصادي في مرحلة ما قبل الرأسمالية، حيث تشير الدراسات التاريخية والاقتصادية إلى أن الحضارات الإغريقية والميزوبوتامية قد سعت إلى تنظيم الحياة الاقتصادية بالشكل الذي يحمي المجتمعات من الفقر والانهيار، اعتماداً على أفكار أفلاطون وأرسطو التي تشكل مقدمات جوهرية تستند إليها الأفكار الاقتصادية في المراحل اللاحقة واستمر تأثير هذه الأفكار لمراحل قريبة قبل ظهور النظام الرأسمالي، كما أن الأسس الحضارية التي مزجت ما بين الفكر والنمو الاقتصادي في بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) ليست أقل شأناً من الأطروحات الإغريقية في التطور، وتثبت الدراسات التاريخية أنها عاشت في مدينة بابل أكثر من سبعين قومية في ظل عدالة اقتصادية واجتماعية، وهي تمثل حالة فريدة تاريخياً لغاية يومنا هذا. وكان هذا التعايش سبباً لظهور نهضة حضارية مستندة إلى تنمية زراعية في المنطقة الممتدة من جبال زاغروس إلى سهول حران وأورفا.
مقابل هذا النمو في الزراعة فُتِحت الأبواب أمام النشاط التجاري وانتشرت المدن والأسواق التجارية بشكل واسع النطاق في المدن الإغريقية، وتأسست الوكالات التجارية في المدن الآشورية الاستبدادية، وتمهدت الأرضية المناسبة لتأسيس الإمبراطورية الآشورية سياسياً باعتبارها أداة حماية للنشاطات الاقتصادية. إن هذه الحالة التي نشهد فيها تطور الإمبراطوريات وأفعالها التجارية برياً وبحرياً تؤكد لنا أنه إلى جانب تطور الفكر الاقتصادي القائم على العدالة، سادت الممارسات الرأسمالية منذ بدايات الألف الأخير قبل الميلاد، حيث أنه هناك النشاط التجاري الذي أفرز كبار التجار، والذي ترافقه الحروب والمعارك الطويلة الأمد للسيطرة على المقدرات الاقتصادية وطرق المواصلات لتحقيق المزيد من الثروات. لكن هذه الممارسات الرأسمالية لم ترتق إلى مستوى نظام اقتصادي واجتماعي يدعى بالنظام الرأسمالي إلا بدءاً من القرن الخامس عشر في أوروبا وقبل ذلك بحدود قرن تقريباً في الصين، إلا أن الرأسمالية الصينية لم تكن توسعية كما هو عليه حال الرأسمالية الأوروبية. حيث أنه وكما بينَّا سابقاً بأن ظهور هذا النظام قد ترافق مع التوسع الأوروبي نحو المناطق المختلفة في العالم.