دخل الاقتصاد العالمي في حالة من الذعر بعد انتشار جائحة كورونا في مختلف أصقاع الأرض. وبدأت عجلة الاقتصاد بالتوقف عن عمليات الإنتاج مجبرةً لا مخيرةً، لغياب خيارات أخرى أمام متخذي القرارات في الحكومات العالمية، ولا سيما حكومات الدول المتقدمة التي أعلنت الاستنفار الكامل لمواجهة الجائحة من خلال تطبيق سياسات العزل الاجتماعي التي أدت، من جملة ما أدت إليه، إلى التوقيف الإجباري للعمليات الإنتاجية والاستهلاكية لمعظم المواد التي لا تصنف ضمن المواد الغذائية، أي أنها أدت إلى تعطيل جانبي العرض والطلب في المعادلة الاقتصادية.
إذا علمنا أن المنظومة الرأسمالية قائمة على تنظيم الأسواق وتقدير أوضاعها عبر بورصاتها التي تعتبر الوحدات الأكثر حساسية للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تُنَفَذُ غالب المعاملات فيها بناءً على التوقعات المستقبلية المتفائلة والمتشائمة على حدٍ سواء. عندئذٍ سندرك أن تأثيرات جائحة كورونا في الأسواق المالية ستكون كبيرة نظراً لتوقف العجلة الإنتاجية من جهة، والتوقعات المستقبلية القصيرة الأجل باستمرار الجائحة لأشهرٍ أخرى من العام الحالي.
طبيعيٌ أن يؤدي توقف سلسلة عمليات العرض إلى إحداث تأثيرات سلبية على قطاع الطاقة، ولا سيما الطاقة النفطية. لذلك كان انهيار أسعار النفط بعد التخبطات القوية المتمثلة في عدم التوافق على تخفيض كميات الإنتاج في الكارتل النفطي العالمي للدول المنتجة والمصدرة لها (أوبك) أمراً واقعاً في إطار التوقعات المبنية على المدخلات التي تؤسس لحالة التشاؤم في الأسواق، حيث أدى انخفاض الطلب على النفط إلى جانب بقاء كميات إنتاجه في حدودها العليا بعد إصرار المملكة العربية السعودية على الإبقاء على حصتها الإنتاجية، إلى انهيار الأسعار. مما شجع الدول الكبرى المستهلكة للنفط على الإسراع في تخزين كميات كبيرة منها خلال الشهرين الماضيين، وأدى ذلك بدوره إلى حدوث توقعات سلبية لأسعاره في الأسواق العالمية.
لقد أحدثت وسائل الإعلام العالمية في نشراتها الإخبارية ليوم الاثنين الواقع في 20/4/2020 زلزالاً مدمراً في بورصات عقود النفط الآجلة (المستقبلية) لنفط غرب تكساس الأمريكي بإعلانها انهيار أسعار تلك العقود المستحقة في شهر أيار القادم. وهنا نطرح سؤالاً عن معنى هذه الحادثة في أسواق المال العالمية، فهل يعني ذلك انهياراً في أسواق النفط؟ أم أن الأمر مختلف عن ذلك؟.
ما حصل قبل الزلزال الإعلامي هو انهيار في قيمة العقود النفطية الآجلة لشهر أيار القادم، وليس ذلك بمستبعد في ظل الظروف العالمية التي يميزها توقف سلسلة عمليات الإنتاج إلى جانب تغطية الدول المتقدمة، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، لاحتياجاتها القصيرة الأجل من النفط بالأسعار العالمية الرائجة في ظل أزمة كورونا. ولا شك أن ذلك سينعكس في صورة التوقع بانخفاض الطلب على العقود التي قاربت استحقاقاتها من التحقق، وهي عقود شهر أيار القادم، لذلك ترتفع احتمالات تحقيق تلك العقود لخسائر في تداولاتها. ولا بد لفهم هذه المعادلة من توضيح مفهوم العقود الآجلة.
لقد نشأ مفهوم العقود الآجلة لمواجهة المخاطر الناجمة عن التقلبات المستقبلية في أسعار الأصول، ولا سيما المنتجات الزراعية والنفط، وهي عبارة عن عقود تلزم المشتري بشراء (أو البائع ببيع) أصل معين في تاريخ مستقبلي محدد مسبقاً مع تحديد السعر.
يتم تحديد السعر في العقود الآجلة بناءً على التوقعات المستقبلية لأسعار الأصول موضوع العقد من الطرفين (المشتري والبائع)، حيث أن التوقعات المتفائلة تشجع على تحديد أسعار مرتفعة للعقود بينما تدعو التوقعات المتشائمة إلى تحديد أسعار منخفضة لها. وهنا نميز بين عقود البيع الآجلة التي تلزم البائع بالبيع في تاريخ لاحق متفق عليه، دون أن يترتب أي التزام على المشتري، وعقود الشراء الآجلة التي تلزم المشتري بالشراء دون أن يترتب على البائع أي التزام بالبيع. وهذا التميز بين العقود يفسر تميز أسعارها في السوق عن السعر الوارد في العقد، حيث أنه عندما يكون مؤشر البورصة مرتفعاً عند استحقاق عقود البيع الآجلة، يكون البائع ملزماً ببيع العقد أو تسليم الأصل (موضوع العقد) بالسعر المذكور في العقد تاركاً هامشاً من الربح للمشتري يعادل الفرق بين السعر الوارد في العقد وسعر السوق. بينما إذا كان مؤشر البورصة متجهاً نحو الأسفل، لن يلتزم المشتري بتنفيذ شرائه للعقد، مما يضطر معه البائع لتحقيق خسارة في العقد وبيعه بأقل من السعر الوارد في العقد. وحصل ما حصل لعقود بيع النفط الآجلة في الأسواق الأمريكية.
لقد أدت النظرة التشاؤمية المتولدة عن انهيار أسعار النفط عالمياً وقرب استحقاق عقود النفط المستقبلية المستحقة في شهر أيار إلى حصول انهيار مروع في بورصة تلك العقود. وتستند تلك النظرة التشاؤمية إلى ما يلي:
- التوقعات باستمرار جائحة كورونا، وما لها من انعكاسات سلبية على الاقتصاد وتخفيض مستويات العرض في الأسواق العالمية، باستثناء النفط، الذي لم ينخفض حجم إنتاجه.
- ارتفاع كميات الاحتياطي النفطي للدول الكبرى المستهلكة لها نتيجة تأمينها بأسعار منخفضة.
- توقعات كبيرة بتراجع مستويات الطلب على النفط في شهر أيار، مع غياب الوضوح بالنسبة لأشهر الصيف والخريف، لذلك حصل الانخفاض فقط في أسعار العقود المستحقة في شهر أيار دون سواه، ويعني ذلك أن أسعار العقود النفطية الآجلة للأشهر التالية تتوقف على التطورات التي سيشهدها العالم بالنسبة لجائحة كورونا وكميات الإنتاج في تلك الفترة.
- إن العوامل الثلاثة السابقة أدت إلى توقع عدم التزام المشترين بتنفيذ العقود المستحقة في الشهر القادم، نظراً لتوجه مؤشر الأسواق النفطية نحو الأسفل، مما أدى إلى اضطرار البائعين إلى عرض تلك العقود بخسارة وصلت إلى ثمانية دولارات أمريكية للبرميل الواحد.
ولعله من المفيد توضيح كيفية تغير أسعار النفط في العقود المستقبلية من خلال المثال الافتراضي التالي:
بفرض أنه تم تحديد أسعار عقود بيع النفط الآجلة والموحدة في بورصة نيويورك والمستحقة في شهر أيار لعام 2020 بمبلغ /54/ دولار أمريكي للبرميل الواحد، وذلك عند التوقيع على العقد في أيار من العام 2019، يعني ذلك أن التوقعات كانت تؤكد على بقاء أسعار النفط في حدودها الطبيعية وقريبة من مستواها في لحظة توقيع العقد، ولم تكن هناك توقعات بانتشار وباء كورونا بأبعاده الاقتصادية. لكن حصول الوباء أدى إلى انخفاض أسعار عقود بيع النفط الفورية في الأسواق العالمية إلى /24/ دولار أمريكي للبرميل، وهو يقل عن سعر عقد البيع الأجل (والمستحق بعد أيام) بمبلغ /30/ دولار أمريكي. سيؤدي ذلك بكل تأكيد إلى إقبال المشترين على شراء النفط وفق الأسعار الواردة في العقود الفورية، نتيجة فارق الأسعار الكبير بينها وبين العقود الآجلة وقريبة الاستحقاق، وبما أن البائع ملزم ببيع ما هو وارد في العقد دون التزام المشتري بشرائه، يضطر إلى تخفيض السعر عن السعر الوارد في العقد. وهو ما حصل لعقود البيع الآجلة والمستحقة في شهر أيار القادم.
يؤكد العمل وفق التوقعات القصيرة الأجل في الأسواق العالمية، أن التحليلات المالية فيها تتراوح ما بين المتشائمة والمتفائلة معاً، لذلك تكون قرارات البيع والشراء مرتبطة بالتوقعات قصيرة الأجل، ويعني ذلك أن المضاربين يتوقعون انهيار الأسواق بالقوة نفسها التي يتوقعون بها تعافيها من الأزمة الحاصلة نتيجة جائحة لم تكن متوقعة حتى بعد حصولها بأيام.