اقتصاد السوق الاجتماعي في عصر الليبرالية الاقتصادية

 

قدمت النظرية الماركسية – اللينينية، بما تمخضت عن تطبيقها في الاتحاد السوفياتي السابق في بداية القرن العشرين، رؤية متكاملة نسبياً للاهتمام بالجانب الاجتماعي في الاقتصاد من خلال طروحاتها المناهضة تماماً للنظام الرأسمالي وتبنيها لقضايا العمال من خلال إلغاء دور آليات السوق في التنمية الاقتصادية. وجاء ذلك تتويجاً لأفكار مجموعة مدارس اقتصادية- اجتماعية نشطت في القرن الثامن عشر.

 

التجربة السوفياتية والخشية الغربية

 

حقق النموذج السوفياتي الذي تم تطبيقه في جغرافية أوربا الشرقية مكاسب كثيرة في مجالات التعليم والصحة والاهتمام بالبحث العلمي والصناعات الثقيلة، وذلك من خلال برامج تنموية لخصت في الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد خلق هذا النموذج الذي انتشر بوتيرة متسارعة في مختلف الاتجاهات مخاوف حقيقية في دول المجموعة الرأسمالية، تمثلت في الخشية من الزحف الشيوعي غرباً والقضاء على المنظومة السياسية التي ولدت مع الاكتشافات الجغرافية وتوسع التجارة العالمية في نهاية القرن الخامس عشر، وأدى إلى تعميق حالة الانشقاق الموجود أصلاً بين طبقات المجتمع الرأسمالي المتضارب المصالح والذي دخل مرحلة أزمة خانقة في عام 1929 واستمرت حتى عام1932، وأدت إلى القذف بملايين العمال إلى خارج دائرة الإنتاج، ومن ثم القذف بهم إلى خارج دائرة الاستهلاك. مما حدا بالاقتصاديين من أمثال كينز والأحزاب الاشتراكية الديموقراطية أن تتبنى استراتيجية تسوية تاريخية لإزالة العداء التاريخي بين المنتجين وقوى الإنتاج في النظام الرأسمالي بتطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي حقق نتائج رائعة جداً، خصوصاً في النموذج السويدي الذي بدأ منذ عام 1932، وذلك بمزاوجة مصالح أصحاب رؤوس الأموال والعمال، باختيار طريق المفاوضات بين نقابات العمال ونقابات أصحاب رؤوس الأموال، وقد حققت هذه الاستراتيجية الغربية نتائج إيجابية جداً في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 

البديل الغربي للاشتراكية

 

لقد بدأت الدول الأوربية الغربية الأكثر تطوراً، وخصوصاً التي حكمتها أحزاب اشتراكية ديموقراطية، كالدول الاسكندنافية وألمانيا وفرنسا، بعد أن تبنت هذه الأحزاب وقياداتها التاريخية ولاسيما في بريطانيا ثم السويد ثم ألمانيا الاتحادية والنمسا وفرنسا وإيطاليا وغيرها لهذا النظام (السوق الاجتماعي)، لأنها تتبنى قضايا العمال، وقوننت معالجتها في إطار حوار اجتماعي متعدد الأطراف، وذلك لغاية إنهاء الآثار السلبية الناجمة عن التناقضات الاقتصادية- الاجتماعية الملازمة لأنظمتها السياسية.

 

ولقد استخدمت هذه الدول التي تبنت استراتيجية اقتصاد السوق الاجتماعي جزءاً من الفوائض الاقتصادية التي تحققها من العمليات الانتاجية للتأمين في جميع المجالات الاجتماعية كالصحة والتقاعد والتعليم والسكن. كل ذلك إلى جانب توفير مناخ صحي لإقامة منظومة ديموقراطية قادرة على منح كل ذي حق حقه، في ظل سيطرة تامة للنظام القانوني الذي يميل بطبعه إلى الطبقات العليا في المجتمع ويحدد حقوق الفئات الدنيا فيه ضمن الحدود الدنيا.

 

تُوِّجَ التزاوج ما بين الإنتاجية العالية لوسائل الإنتاج في هذه الدول وتوفير المناخ الديموقراطي بنجاح فلسفة اقتصاد السوق الاجتماعي في الدول الغربية، وذلك لمنع الزحف الشيوعي باتجاهها، واستمرت المزايا التي اكتسبتها الطبقات الفقيرة في المجتمعات الغربية خلال فترة الحرب الباردة لغاية انتهاء تلك الحرب. وبدأت الدول الغربية من حينها بمراجعة سياساتها الاجتماعية وأعبائها. ولقد خسرت تلك الطبقات الكثير من تلك المزايا من خلال انتقال النظام السياسي والاقتصادي الغربي إلى مرحلة لبرلة جميع مفاصل الحياة.

 

اقتصاد السوق الاجتماعي يتعارض مع الليبرالية الاقتصادية

 

إن أهم مسألة مطروحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية على الصعيد العالمي هي: ما مصير المكاسب الاجتماعية التي حققتها الطبقات العمالية في النظم المتقدمة بعد انهيار أكبر منظومة معادية للنظام الرأسمالي. فلا شك أن المعطيات على الصعيد العالمي قد تغيرت ملامحها، وما كان يخشى منه بالأمس، اليوم هو جزء من الماضي.

 

بدأت الدول الغربية تقلص من حجم برامجها الاجتماعية وتغير قوانين العمل بما يتوافق مع مصالح أصحاب رؤوس الأموال والشركات المتعددة الجنسية ودون إعطاء اعتبارات كبيرة للمخاطر الاجتماعية. لذلك لوحظ أن الأحزاب اليسارية بدأت بالانتصار في الانتخابات البرلمانية في كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها في تسعينيات القرن الماضي. وذلك في إطار ردة فعل اجتماعية على التطورات العالمية في الحقبة ما بعد الاشتراكية.

 

يندرج كل ذلك في إطار رد الفعل الاجتماعي للمعطيات العالمية الجديدة، وتوسع نشاط مؤسسات المجتمع المدني للحفاظ على المكاسب المتحققة من قبل الطبقات الدنيا في المجتمعات المختلفة، إلى جانب التوسع الكبير لدور الشركات عابرة القومية في رسم الخارطة السياسية والاقتصادية للعالم نتيجة هيمنتها الاقتصادية وتفوقها العلمي والتكنولوجي الذي يضع العقبات أمام تنمية دور مؤسسات المجتمع المدني. خاصةً إذا أدركنا أن العولمة لم تمنح حرية التنقل لرؤوس الأموال البشرية بالدرجة التي منحتها لتحرك الأموال على الصعيد العالمي.

 

فقد أدى هذا التحرك المرن للأموال على الصعيد العالمي إلى تقويض دور الحكومات والمؤسسات المدنية على حدٍ سواء، وأدى في كثير من الحالات إلى تراجع مستوى التنمية الاجتماعية على الصعيد العالمي، حيث تشير معظم الدراسات إلى تزايد حدة الفقر وانتشار الأوبئة والتلوث في الوقت الذي ارتفع فيه عدد أصحاب المليارات خلال العقد الماضي إلى 2024 مليارديراً، يملكون ما يملكه 4.6 مليار إنسان على وجه المعمورة. وقد توجت الليبرالية الاقتصادية دخولها إلى العقد الجديد بانتشار وباء كورونا المجهول السبب والنتيجة، مؤكدة ملازمتها للأزمات الاقتصادية والأخلاقية والصحية.

 

إذاً يمكننا أن نحدد دور الليبرالية المناقض لاقتصاد السوق الاجتماعي من خلال عدة أوجه:

 

1-تراجع دور دولة الرفاه الاجتماعي، وقد تجلى ذلك في الحد من زيادة النفقات الصحية والتعليمية، والعمل على تطبيق سياسات عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وتبرز اليوم هذه الحقيقة من خلال الصراعات الدولية التي تركز على التناقضات في المصالح التجارية بين الشركات الكبرى والكيانات الاقتصادية المتعاظمة في دائرة حرية التجارة والإنتاج وانتقال رؤوس الأموال العالمية.

 

2-الاندماج بين الشركات الكبيرة، قد أدى إلى تسريح الألاف من العمال في دول الشمال والجنوب على حد سواء، وأدى إلى قبول العمال بالظروف الصعبة للعمل خشية أن يجدوا أنفسهم خارج دائرة الإنتاج، وانتشار ظاهرة العقود قصيرة الأجل عوضاً عن العقود طويلة الأجل، ما أدى إلى توسع نطاق الحركات المناهضة للعولمة والليبرالية الاقتصادية، واتخاذها أحياناً لطابع العنف.

 

3-انتشار ظاهرة تشغيل الأطفال والنساء، حيث تشير الإحصائيات إلى أن نسبة النساء العاملات (العمالة الرخيصة) في المصانع التي نزحت من الشمال باتجاه الجنوب، مثل الألبسة والأجهزة الإلكترونية، تتراوح ما بين 70% إلى 90% من إجمالي العاملين فيها.

 

4-انتشار ظاهرة اقتصاد الظل في الدول المتخلفة على وجه الخصوص، والذي يلعب دوراً كبيراً في التهرب الضريبي والحد من حجم الإيرادات العامة للدول، وبالتالي التأثير الفعال على دور الدولة في التنمية الاجتماعية.

 

تؤكد عملية سير الأحداث الاقتصادية والسياسية خلال القرن العشرين والعقدين الماضيين على فقدان البشرية للكثير من مكاسبها أمام تعاظم هول ما تفرضه الشركات المتعددة الجنسية على النظم السياسية من أشكال الصراع التي تخدم ديمومتها.

 

ماذا تحمل مرحلة ما بعد كورونا اقتصادياً، اجتماعياً، فهل هناك ما يدعو للتفاؤل؟ أم أن الليبرالية ستنتج منظومة أكثر ليبرالية؟ تلك هي أسئلة لا بد من طرحها في معرض البحث عما يشبه البحث عن إبرةٍ في كومة قش.