د. أحمد يوسف
نستدل من قراءة واقعة تطور الاقتصاد التركي أنه لم يكن على وفاق مع تعافي الحال يوماً منذ تأسيس الجمهورية الكمالية، وظل مواكباً للصراعات المختلفة التي باتت سلوكاً مميزاً لممارسات أجهزة السلطة التركية المتعاقبة بمختلف تكويناتها واتجاهاتها، التي تستقي في نهاية الأمر من المنبع الفكري ذاته، وتصب جام عنفوانها الفكري وسلوكها المشبع بالانحراف السياسي والتاريخي في الاتجاهات الحضارية ومطالب أصحاب تلك الاتجاهات، لا سيما ذلك الذي يميزه الانتماء الأثني المختلف.
ويبدو من المحاكاة الظاهرية لسياسات السلطات التركية في العقدين الأخيرين، ماهية المناقضات لما تم سرده أعلاه، وذلك لقدرة السلطات الحاكمة خلال هذه الفترة على إبداع فنون التلون وإخفاء الحقائق المعاشة مع الانتكاسات الاقتصادية والسياسية عن العامة، وإظهارها في صورة الانتصارات التاريخية للأمة القائمة على جماجم الشعوب والأمم الأصيلة.
لقد تم إيهام الشعب التركي بالإنجازات الاقتصادية عبر قنوات المشاريع الكبيرة وتنمية الإسفلت والإسمنت التي أثقلت كاهل الشعب بالمديونية الخارجية التي قاربت قيمتها النصف تريليون دولار أمريكي. لكن ما لا تدركه الحكومات المستبدة، وسوء طالعها، هي أنها تراكم أعمالها الجرمية التي تنخر في جسدها وتقضي عليها في لحظة الانفجار الكبير للحقيقة التي تظهر وضوح معالمها مع أول نسمة هواء جارية عكس سفنها.
كورونا الفضيحة
إذا كانت مسرحية الانقلاب المزعوم الذي أدى إلى تصفية حكومة الظل المتمثلة بجماعة غولن في عام 2016 نقطة تحول مسار العدالة والتنمية نحو المركزية المطلقة والفردانية الإدارية. وبناء منظومة سلطوية على جماجم العسكر وخفايا وشبهات سلوكيات العالم الاقتصادي لهذه المنظومة بما تحملها من مسببات الانهيار، فإن مرحلة ولوج "كورونا" إلى عقر دار سلطات العدالة والتنمية السائر على درب الهلاك بتأثير عوامل النخر الداخلي المعلن عنها من بعض ركائز النظام ذاته لتوسيع حجم المواجهات العصيبة لرأس الهرم التركي، تمثل نقطة حاسمة في تعميق الشرخ الحاصل بين أقطاب السياسة التركية من جهة وبين بعضها والشعوب القاطنة على الجغرافيا التركية من جهةٍ أخرى. وتحول هذا الفيروس المجهول الهوية كابوساً سياسياً واقتصادياً قبل أن يكون كابوساً صحياً.
فما زالت تشير الأرقام العالمية إلى تواضع نسبة الوفيات بين المصابين بهذه الجائحة الصحية. وقد تشهد تلك النسبة تراجعاً نتيجة تراكم خبرات التعامل معها رغم استمرار أعداد المصابين في التطور.
إن استمرار الحالة وفق هذه المعطيات تزيد من المخاطر الاقتصادية الناجمة عن توقف عجلة الإنتاج بصورة شبه تامة في القطاعات الاقتصادية المتنوعة. مما اضطرت الدول الكبرى إلى الإعلان عن تخصيص مبالغ مالية تجاوزت (5) تريليون دولار أمريكي لتفادي الآثار الاقتصادية السلبية والمتمثلة بالانحدار نحو الركود الاقتصادي.
تركياً، الحال المختلف عن سياسات الدول العظمى، حيث أنها الدولة التي يتجاوز سكانها ثمانون مليوناً وتقبع تحت وطأة مديونية خارجية وأعباء سياسية واجتماعية داخلية تسير نحو الخروج من دائرة سيطرة العدلة والتنمية، لذلك يمكننا الجزم بأن الكورونا التركي مختلف عن كورونا الدول العظمى رغم احتلالها لموقع متأخر نسبياً مقارنة مع تلك الدول في حجم الاصابات، فالطامة الكبرى في تركيا لا تتمثل في النتائج الصحية بقدر تمثلها في النتائج الاقتصادية والسياسية، وستنعكس الأزمة عليها من بوابتين.
الأولى: الانحدار المبكر نحو الركود الاقتصادي عبر انهيار أسواق المال وأسعار الصرف التي بلغت /6.56 مقابل الدولار الواحد/، وتراجع تصنيفه الائتماني، وتعطل الصناعة وتوقف السياحة وتراجع الجدارة الائتمانية للقطاع الخاص نحو الانهيار وركود مؤسسة الطيران التركية التي تمثل واحدة من كبرى شركات الطيران العالمية، والتي قد تترجم في صورة استغنائها عن نسبة تتجاوز /50/% من العاملين فيها. وسيكون ذلك مؤشراً على فضح سياسات العدالة والتنمية على مدى العقدين الماضيين، تلك السياسات التي أجادت العدالة والتنمية في إبرازها كانتصارات في سجلها أمام الشعوب التركية.
الثانية: سرعة انتشار الوباء في ظل عدم القدرة على ايقافه، وباتت تركيا في مرتبة عالمية متقدمة من حيث عدد المصابين بها، وفق لتصريحات السلطات ذاتها.
أردوغان أخطر من كورونا
كان ذلك نتيجة استطلاع قام بها أحد الصحفيين في صحيفة (يني أوزغور) المعارضة حول أكثر التهديدات التي واجهت الكرد خلال 20 عاماً، فتبين أن الرئيس رجب طيب أردوغان هو الخطر الأكبر بنسبة /93.2/% من المستطلع آراءهم. بينما لم تتجاوز نسبة الذين يجدون الخطورة في كورونا /3.7/% من المستطلعين. وفي ذلك دلالة واضحة على حجم الكارثة السياسية في المجتمع التركي الذي ينظر إلى أردوغان (رئيسهم المنتخب) على أنه أخطر من أخطر جائحة صحية تهدد العالم.
درع الاستقرار الاقتصادي العقيم
في دلالة واضحة على تأزم الأوضاع الاقتصادية في البلاد مع بداية انتشار أزمة كورونا، بدأت السلطات الإعلان عن إصدار حزمة سياسات اقتصادية لتحقيق الاستقرار تحت مسمى "درع الاستقرار الاقتصادي التركي". وركزت بنود هذا الدرع على معالجة بعض الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لجائحة كورونا من خلال تأجيل سداد أقساط مؤسسة الضمان الاجتماعي، وتحديد فترة تسديد قروض المصانع المتضررة من الفيروس، وكذلك دفعات الفائدة للبنوك، إلى جانب دعم المصدرين في حال تراجع صادراتهم، وتخفيض الدفعة الأولى لشراء المنازل التي تقل قيمتها عن /500/ ألف ليرة تركية إلى /10/% من القيمة، وزيادة الحد الأدنى للرواتب التقاعدية، وزيادة ميزانية وزارة الأسرة والعمل والخدمات الاجتماعية.
لا تعادل المبالغ المخصصة للدرع عائدات قطاع السياحة التركي وحدها لعام واحد، وبالتالي قد تؤدي إلى تغطية بعض التكاليف الاجتماعية للجائح إلا أنها لن تستطيع أن تمثل حلاً للجائحة الاقتصادية الناجمة عن كورونا العدالة والتنمية الذي ينخر في الاقتصاد التركي منذ عقدين، ولا درعاً لحمايته من الانهيار نتيجة كورونا فايروس، فالاقتصاد التركي مُقدمٌ على ركود لم يشهد من قبل بفعل تلك العوامل، ستكون سيوف الانهيار كفيلة بكسر درع الحماية المطروح من العدالة والتنمية لحماية نفسها من كارثة السقوط، لا من أجل حماية المجتمع والشعوب التركية.