الاقتصاد التضامني والتنمية الاجتماعية في شمال وشرق سوريا

 

د. أحمد يوسف

 

وقع الاقتصاد العالمي في ظل سيطرة أفكار المدرسة الليبرالية في حالة معقدة، أساسها حصول انتكاسات اقتصادية واجتماعية تؤدي إلى توجه المجتمعات العالمية نحو الانحدار ثم إلى الفقر وانعدام السيطرة على مقدرته، وذلك على العكس تماماً مما دعا إليه رواد هذه المدرسة وتوقعاتهم التفاؤلية بشأن قوة آليات السوق في التنظيم الذاتي لضبط جانبي العرض والطلب، وتجاوز الأزمات التي  يشهدها النظام الاقتصادي العالمي المعولم مع انتهاء عصر الثنائية القطبية.

 

لقد رافق هذه الانتكاسة الاقتصادية والاجتماعية المتولدة من رحم منظومة فكرية بالغت في التطرف بمنح الحرية المطلقة للشركات الاستثمارية في السوق تحت مسمى حرية السوق، تراجعٌ ملفت في الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وأدى ذلك إلى تراجع قوتها أمام تطور نفوذ الشركات المتعددة الجنسيات ومفرزات العولمة بكل تجلياتها. وتضاف إلى هذه المعطيات التجربة المريرة للدولة المتنفذة والتسلطية بعد ستينات القرن العشرين والمتمثلة بفشلها في مقارباتها الاقتصادية لعملية التنمية. وقد أدت الحالتان في المحصلة إلى توطيد المفاهيم الداعمة لتحييد دور الدولة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية أو تقليصه على أقل تقدير، وذلك نظراً لفشلها في مرحلتي تقييد الأسواق وحريتها المزعومة.

 

وفي ظل تدهور الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، وتزايد سطوة واستبداد الرأسمالية، وتزايد عبء الطبقات الفقيرة في المجتمع، ما كان على الاقتصاديين ذوي الميول الاجتماعية في أفكارهم إلا إعادة قراءة النظم الفكرية الاقتصادية والاجتماعية في رحلة بحثهم عن منظومة بديلة لما يسود العالم الأحادي القطب والمتعدد المؤثرات. وقد تركزت جهودهم في البحث عن آليات جمع قوى الأطراف المختلفة في المجتمع وتوطيدها في خدمة التنمية الاجتماعية. لذا كان اللجوء إلى "بير لرو" والعودة إلى مذهبه الاقتصادي في التضامن ومشتقاته الاجتماعية على يدي "دوركايم" وسيلة لبناء نظام اقتصادي اجتماعي تتمثل أبعاده في مساهمة وحدات المجتمع التضامنية في السعي لتقليص الفوارق عبر إعطاء الأولوية في السياسات والتدابير المختلفة للنهوض بالتقدم الاجتماعي والعدالة وتحسين وضع الإنسان، وذلك بمعزلٍ عن السياسات الاقتصادية الداعمة للبرلة كل المفاهيم في المجتمع ضماناً لاستمرار سطوة الشركات المتعددة الجنسيات.

 

تجربة شمال وشرق سوريا

 

تمثل تجربة شمال وشرق سوريا حالة فتية لم تبدأ ملامحها بالوضوح بعد، إلا أنها تعمل على أساس بناء نموذج ثنائي الأبعاد، فمن جهة تعمل على تشجيع الاستثمارات الأجنبية في بعض القطاعات، ومن جهة أخرى تعمل على تأمين سبل ضمان الحماية الاجتماعية والاستثمار في رأس المال البشري ودعم التنمية الاجتماعية عبر شبكة مؤسسات تضامنية مجتمعية.

 

مسار الاقتصاد التضامني

 

إن نجاح تجربة الاقتصاد التضامني بأبعاده المختلفة يفرض العمل على مسار الاقتصاد الاجتماعي والذي يركز على تنمية الجوانب المتعلقة بالقضايا الاجتماعية، لتحقيق تكامل جوهري ما بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، تطبيقاً للقاعدة التي تؤكد على أن كل نشاط اقتصادي يجب أن يكون له هدف تحقيق الأمان الاجتماعي.

 

ويمكن العمل في هذا المسار وفق المبادئ الأساسية التالية:

 

1-         التعاونيات النشطة.

 

2-         الأسعار المرنة القائمة على المنافسة.

 

3-         حرية التعاقد.

 

4-         استقرار السياسة الاقتصادية.

 

5-         مناهضة الاحتكار.

 

6-         نظام ضريبي يحقق عدالة التوزيع.

 

7-         الأمان الاجتماعي.

 

8-         العمل الآمن.

 

9-         التعويض عن فشل السوق.

 

10-       قطاع خدماتي متطور.

 

11-       المساهمة الفعالة للمواطنين في اتخاذ القرارات عبر المجالس الممثلة لهم

 

اقتصاد تشاركي- لا حكومي

 

تتعدد التعاريف التي تخص الاقتصاد الاجتماعي، وتدور كلها في دائرة منح الأهمية للاقتصاد التشاركي- اللاحكومي، وذلك في إطار منهجية اقتصادية يعتمدها مفكرو هذا التوجه الاقتصادي لتخفيف آثار الليبرالية الاقتصادية على الفئات الفقيرة من المجتمع إلى جانب تطوير الاقتصاد الأخضر، أو ما يمكن تسميته بالاقتصاد البيئي، الذي يعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البيئة من الاستثمار الجائر الذي تتعرض له بتأثير القدرة الهائلة لأدوات الإنتاج في ظل الثورة العلمية والتكنولوجية.

 

ونرى أن أوضح تعريف للاقتصاد الاجتماعي هو اعتباره على أنه: العلم الذي يسعى إلى تأمين احتياجات المجتمع في ظروف ديمقراطية بعيدة عن احتكار وسائل الإنتاج، سواء أكان هذا الاحتكار ممارساً من قبل الحكومات أو من قبل القطاع الخاص، ويكون سمته المميزة سيادة الملكية والعمل التشاركي إلى جانب احترام الملكية الخاصة ضمن ظروف وشروط محددة.

 

يتطلب من الاقتصاد الاجتماعي أن يتخذ هيكلية قائمة على أعمدة تشكل قواعد الحماية المجتمعية، وذلك لكي يقوم بدوره في عملية بناء نموذج اقتصادي قائم على منح الأهمية القصوى للاعتبارات الاجتماعية، وتأسيس المؤسسات التي ترسخ قواعد العمل الجماعي ضمن الهيكلية الاقتصادية. وتتمثل تلك الأعمدة في الأكاديميات الاقتصادية والكومينات والجمعيات والمؤسسات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، وتقوم هذه المؤسسات بوظائف شاملة تخدم عملية التنمية الاجتماعية.

 

يمكن لمؤسسات الاقتصاد الاجتماعي أن تلعب دوراً هاماً في تنفيذ أهداف السياسة الحكومية من خلال ما يلي:

 

–           زيادة الإنتاجية والتنافسية.

–           الاسهام الاجتماعي في خلق الثروة

–           توثيق العلاقات بين الأفراد والمجتمع.

–           ابتداع طرق جديدة في توصيل الخدمات العامة.

–           تنشيط المواطنة.

 

التنمية الإيكولوجية

 

يمكن تعريف التنمية الإيكولوجية على أنها: هي حالة التطوير الاقتصادي والاجتماعي المعتمد على تنمية علاقة المجتمع مع البيئة المحيطة واعتبار كليهما متحدين ومتكاملين، وإن أي خلل يبرز في هذا  الاتحاد القائم على التجانس يؤثر عميقاً في طرفيها. وتستقي التنمية الإيكولوجية جوهرها من نشوء العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية في المجتمعات البدائية الطبيعية وغير الاستغلالية. 

 

ولكي تقوم التنمية الإيكولوجية بأداء دورها التنموي القائم على حماية البيئة لا بد من الالتزام بالمعايير التالية:

 

1-         الصناعة ضد الصناعوية.

 

2-         تعادل الربح الاجتماعي مع الربح الاقتصادي أو سيطرة الربح الاجتماعي عند اختيار المشاريع الإنتاجية، ويتوقف ذلك على طبيعة المشروع والهدف منه.

 

3-         الحفاظ على الموارد الطبيعية غير المتجددة واستخدامها ضمن الحدود التي تحددها المطالب المجتمعية.

 

4-         تفعيل دور المجتمع في الاقتصاد عبر بناء الوحدات الاقتصادية الاجتماعية، والتي تهدف إلى تأمين الاحتياجات الاجتماعية أساساً في العملية الإنتاجية، والمتمثلة أساساً في الكومينات.

 

5-         يعتبر التخطيط التأشيري أساساً لتحقيق التنمية الاقتصادية. 

 

إذا كانت التجارب العالمية القائمة على نظريات الليبرالية الاقتصادية قد لاقت فشلاً اقتصادياً واجتماعياً، وجعلت عملية مواجهة الأزمات حالة مستمرة في الاقتصاد العالمي، حيث الكوارث الطبيعية والبشرية، فإن ذلك ينبع من الطبيعة الاستغلالية للمنظومة القائمة على أساس هذه النظريات، وإذا كانت تجارب الاقتصاد التضامني تلقى الفشل، فإن ذلك لن يكون إلا نتيجة خيانة المبادئ والتطبيقات العملية للمنظومة الفكرية لهذا الاتجاه الاقتصادي والاجتماعي.