"كورونا".. حلقة قصيرة من مسلسل الأزمات الرأسمالية

 

على الرغم من القدرة الهائلة للرأسمالية بصفتها منظومة سياسية حامية لسياسات النهب الممارس من قبل رؤوس الأموال الاحتكارية ومتمماتها المؤسساتية المختلفة. لم تستطع هذه المنظومة تحييد مؤسساتها من الأزمات المتتالية التي تعصف بها بين الحين والآخر بأشكال مختلفة ومتميزة عن بعضها البعض، فتارةً تبدو أزمةً شاملة وتارةَ أخرى تبدو أزمة طاقة وتارةً تبدو أزمة مالية تؤدي في نتيجتها إلى فقدان الكثير من المقومات التي اعتمدتها النظريات الاقتصادية المدافعة عن الرأسمالية لقيمتها الفكرية، وتنتهي تلك المقومات لتبدأ المدارس الرأسمالية ببذل الجهود لخلق البدائل الفكرية التي تتأمل منها تلك المدارس ترسيخ قواعد هذه المنظومة لآجال طويلة من جهة ولإدراك مسببات أي أزمةٍ يعاني منها النظام الرأسمالي قبل حدوثها. إلا أن تلك الجهود كلها تذهب هباءً منثوراً أمام القوة الخارقة لتأثير الأزمة التي تصل أحياناً إلى مراحل خطيرة تكاد أن تنهي معها حياة المنظومة كلها.

 

لقد أصبحت الأزمات صفة ملازمة للرأسمالية مثلها مثل الأعراض التي تظهر في جسم الإنسان نتيجة معاناته من بعض الأمراض، فالأمر إذاً بالنسبة للرأسمالية هو أنها بمثابة مرض وليس بمثابة اقتصاد وتعاني بصورةٍ دائمة من الأعراض، فالأزمات هي أعراض طبيعية لمرض اسمه الرأسمالية وتجهد في معالجتها النظريات الاقتصادية.

 

يتبين من متابعة تطور المنظومة الرأسمالية منذ القرن الخامس عشر ولغاية تاريخه أن جميع النظريات الاقتصادية التي ظهرت في هذه المنظومة تتصف بكونها تابعة للأزمات الاقتصادية وتسعى إلى حلها وتبرير الكثير من ظواهرها. ولم تتمكن جميها من إيقاف حالة الجشع الذي يمارسه المضاربون في الأسواق المالية والعاملون في اقتصاديات الكازينو أو التقليل من تأثير سلوكياتهم التي أخرجت الاقتصاد من كونه اقتصاداً إلى مجرد فنونٍ لتعظيم ثروات البعض عبر نهب البعض الآخر. تشير المعطيات الإحصائية إلى تراجع عدالة توزيع الدخل على المستوى العالمي، وبالتالي تؤكد صحة هذه الحقيقة.

 

لقد عاصرت الدول الرأسمالية عصراً ذهبياً خلال ربع القرن التالي للحرب العالمية الثانية، وتميز بأنه كان من أكثر مراحل تطورها رواجاً وازدهاراً تحت تأثير السياسات الاجتماعية التي تم طرحها بعد إثبات فشل أفكار المدرستين الليبرالية والليبرالية الجديدة لإنقاذ النظام الرأسمالي من التحديات القاسية التي ظلت تواجهها لغاية ثلاثينيات القرن العشرين، وكذلك بتأثير ما تم طرحه وتطبيقه في الاتحاد السوفياتي. ولم تكن حالة الرواج هذه محصورةً بالدول الرأسمالية فقط، وإنما شاركتها في ذلك معظم دول العالم، سواء دول الكتلة الاشتراكية التي كانت تروج لقدرتها المذهلة لتحقيق الرفاهية الاجتماعية أو الدول الحديثة العهد التي ما لبثت أن بدأت تحتفل بمهرجاناتها الاستقلالية خلال الفترة الممتدة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرةً ونهاية الستينيات، وباتت قياداتها السياسية تؤسس لتحقيق الاستقرار السلطوي لنفسها عبر طرح نماذج التنمية الاقتصادية المتنوعة والتي تأتي في مقدمتها نموذج التنمية المعتمد على الصناعات التصديرية وصناعات بدائل الواردات.

 

إن هذه الحالة التي تم معايشتها عالمياً وخلال الفترة المذكورة لا تعني مطلقاً انتفاء المشكلات الاقتصادية وقتذاك، وإنما استطاعت تلك الدول تقديم الحلول لمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تواجهها بوسائل تحد من همجية المنظومة الرأسمالية وتكبح آليات النهب الممنهجة والتي تم وضعها منذ قرون سابقة. لكن لم يستمر الحال هادئاً، إذ سرعان ما بدأت قوى دعم الفوضى الرأسمالية وإحداث الخلل في السوق تسهيلاً للنهب تعطي مفعولها لجر دول العالم إلى الأزمة التي باتت تكتسب صفة الديمومة منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين. فقد أخذت الأزمة صوراً عديدة تختلف باختلاف طبيعة الأنظمة السياسية السائدة، حيث أنها كانت في الدول المتخلفة والحديثة العهد أزمة فشل التجارب التنموية تحت تأثير العوامل الداخلية والخارجية والتي يمكن ترجمتها بتعاظم حجم الفساد فيها لدرجة أن الحاكم أصبح بديلاً عن الدولة والشعب على حدٍ سواء، بينما في الدول الاشتراكية فقد اتخذت صيغة تعاظم الإنفاق العام وعدم القدرة على تلبية الحاجات المتزايدة للمواطنين إلى جانب التأثير الناجم عن الجوانب البيروقراطية في إدارة الأنظمة الاشتراكية. أما في الدول الرأسمالية فقد اتخذت الأزمة أشكالاً عديدة مثل الأزمة النقدية التي استدعت تغيير النظام النقدي الدولي وأزمة الطاقة التي ظهرت في بداية السبعينيات ونهايتها وأزمة المديونية العالمية التي كان طرفها الآخر هو الدول المتخلفة، والأزمة المالية الدولية التي كانت مركزها مركز المنظومة الرأسمالية العالمية وامتدت على مدار سنواتٍ ثلاث.

 

المشترك في الأزمات الرأسمالية هو حدوثها نتيجة حصول الخلل في حلقة الإنتاج والاستهلاك تحت تأثير عوامل اقتصادية بحتة، إلا أن هذه القاعدة لم تكن واردة في أزمة كورونا فايروس. إذ لم يكن متوقعاً ظهور أزمة اقتصادية من نوع مختلف، عمادها تهديد البشرية، لا تهديد الأسواق، عبر حصاد الأرواح بصورةٍ متسارعة. ولم تظهر أجندة المواجهة المحتملة مع هذه الأزمة حتى قبل حدوثها بلحظات، لذلك اتخذت صفة الأزمة المفاجئة، وأين؟

 

في بلاد التنين الذي استيقظ (وهذا ما كان يخشاه نابليون) متأخراً، وكاد أن يصل مبكراً ومهدداً باحتلال مكانة أكبر الاقتصادات العالمية خلال سنوات معدودة لا تتجاوز العقد الواحد.

 

لقد ارتفعت ، مع حدة الأزمة وبروز التوقعات ببقائها في الحدود الجغرافية الصينية، التكهنات بانهيار الاقتصاد الصيني وفقدانه لموقعه المتقدم في ترتيب أكبر الاقتصادات العالمية والأول تصديراً. إلا أن الإجراءات الصارمة لمواجهة الفيروس أدت إلى الحد من انتشاره محلياً وإعلان الصين انتهاء الفيروس في الوقت الذي انتشر كالنار في الهشيم عالمياً، وتجاوز عدد الدول التي تأكد وجود الإصابات فيها المائة وأربعين دولة وقارب عدد المصابين المائة والخمسين ألفاً، وبقيت نسب الوفيات بين المصابين دون النسب الناجمة عن الأمراض المشابهة.

 

لا شك أن لظهور وباء من نوعٍ جديد وخطير، آثاره الاقتصادية على المجتمعات التي يظهر فيه، وقد بدأت الأزمة تنعكس في صورة توقف بعض النشاطات الاقتصادية وتراجع معدلات النمو التي ستؤدي حتماً إلى إحداث الركود في الاقتصاد العالمي، حيث تشير توقعات المعهد المالي الدولي إلى تراجع النمو في الاقتصاد الأمريكي من 2% إلى 1.3% وفي الاقتصاد الصيني من 5.6% إلى 4%.

 

اقتصادياً، تولد الأزمات الاقتصادية من انخفاض الطلب مقارنة بالعرض، مما يؤدي إلى ظهور فائض في العرض وبالتالي التوجه نحو الانحدار إلى الركود، لكن ما يميز هذه الأزمة في بدايتها أنها ناجمة عن قرارات صارمة لإيقاف عجلة الإنتاج، كجزء من السياسات الاحترازية لإنهاء كورنا فايروس، مما تترك معها بعض الأعراض الجانبية، حالها كحال الأدوية المستخدمة في معالجة الأمراض البشرية التي تؤدي إلى معالجة المريض وتترك آثارها الجانبية عليه. لذلك يمكن الجزم بأن ما يشهده الاقتصاد العالمي ليس إلا عرضاً جانبياً ناجما عن معالجة المرض الذي أصابه عبر هذا الفايروس الذي ما زال لغزاً على العلماء، ويبدو أن اختفاءه لن يكون سوى مسألة زمن، حتى لو لم تصل المختبرات العالمية إلى إيجاد اللقاحات المناسبة له.

 

ستكون النتائج الاقتصادية السلبية، التي تبدو أنها تتعرض لعملية تضخيم في مراكز القرار العالمية ووسائل إعلامها، محكومة بآجال زمنية قصير، ولن تتمكن من الصمود أمام تعافي الاقتصاد العالمي من أزمة الزكام المصاب به، مع بدء الاقتصادات الكبرى باتخاذ إجراءات تعويض السوق لإزالة الفوارق بين فائض العرض وعجز الطلب اللذين لم يدخلا في مرحلة الأزمة بعد.

 

إذا كانت المنظومة الرأسمالية قد دفعت أثماناً باهظة في أزماتها السابقة، وتمكنت رغم ذلك من تجاوزها، فإنها لن تكون في موقف مشابهٍ من حيث حدة الأزمة، ولن تحتاج تكاليف باهظة لإنهائها، فالأمر ليس إلا اتخاذ قرارات صارمة للمعالجة من أزمة صحية لها أعراض اقتصادية جانبية ومؤقتة.