المعضلة الصينية وحدود قدرتها في تدويل عملتها

د. أحمد يوسف

 

احتلت الصين موقع ثاني قوة اقتصادية عالمياً، بعد أن شهدت نمواً اقتصادياً كبيراً وبمعدلات مرتفعة، وزادت مساهمتها في تكوين إجمالي الناتج المحلي العالمي ليقترب من /15%/، وبات اقتصادها الأكثر تصديراً في العالم وأكبر مستثمر سندات سيادية فيه، وخاصةً في السندات السيادية في الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر الاقتصادات العالمية.

 

ازدادت مع هذه التطورات التكهنات بحصول تطورات ٍفي موقع اليوان الصيني، ليتحول إلى عملةٍ عالمية، تستخدم في المعاملات الدولية، بديلاً عن الدولار الأمريكي، أو أن تحتل مكانةً بين العملات العالمية المستخدمة في الاحتياطيات النقدية في البنوك المركزية، مثل الدولار الأمريكي والين الياباني واليورو والفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني.

 

تعمل الصين على تدويل عملتها، على غرار عملات الاقتصادات الكبرى، رغبةً منها لتحقيق مجموعة أهداف اقتصادية ومالية، تمنحها مكانة عالمية وقوة تنافسية أمام منافستها الأقوى، الولايات المتحدة الأمريكية. وقد باتت تلمس هذه الرغبة الصينية بعد الأزمة المالية العالمية واضحاً، من خلال تصريحات المسؤولين الصينيين عن ضرورة تغيير النظام المالي الدولي لكسر احتكار بعض الدول فيه أو بعبارة أكثر دقة لانضمامها إلى نادي محتكري المنظومة المالية الدولية.

 

وقد برز اليوان كعملة متداولة في المعاملات الدولية بعد ذلك التصريح، كما أنها أصبحت جزءاً من سلة عملات حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي في الأول من تشرين الثاني لعام 2016.

 

إذا كانت العملة الصينية قد حققت هذه التطورات، فهل يعني ذلك أن الصين تسير في طريق تحقيق هدفها في تدويل عملتها لتكتسب صفة العملة القابلة للتداول في الأسواق العالمية والمستخدمة كاحتياطي في البنوك المركزية، أم أن تعقيدات هذه المسألة تحد من قدراتها لدرجة التوقف عن السعي خلف الهدف.

 

عادةً، تلجأ البنوك المركزية إلى استخدام العملات الصعبة كاحتياطي لسببين:

الأول: ضمان قدرتها على سداد قيمة الواردات الأجنبية، وتزداد الحاجة بازدياد انكشاف الاقتصاد على العالم الخارجي.

الثاني: ضمان سداد القروض الأجنبية.

 

وتلجأ البنوك لضمان تحقيق أهدافها إلى وضع احتياطاتها من العملات الأجنبية التي تتمتع بقبول عالمي، سواءً كان ذلك باعتماد عملة واحدة أو سلة عملات.

 

وما لا يترك مجالاً للشك أن جميع العملات الصعبة التي تحظى بقبول عالمي قد مرت بظروف مختلفة، هيأت لها التحول نحو اكتساب صفتها. فالقوة التي اكتسبها الجنيه الإسترليني ليتحول لعملة صعبة، كانت وليدة الظروف التي مهدتها عملية توسع الإمبراطورية البريطانية في مختلف أصقاع الأرض، ولم يكن نفوذ الدولار الأمريكي إلا من نفوذ القوة الاقتصادية الأمريكية التي أنهت الحرب العالمية الثانية بما يتطابق ومصالحها، دون أن تكون طرفاً في تلك الحرب إلا في لحظة الحسم النهائي، فلم تكن تملك الدول الأوربية حيلة لرفض مخرجات اتفاقية بريتون وودز، التي فرضت الدولار الأمريكي كعملة العملات، والعملة الوحيدة القابلة للاستبدال بالذهب، وتربع الولايات المتحدة نتيجة ذلك عرش النظام المالي الدولي.

 

في ظل تعاظم القوة الاقتصادية الصينية، ما هي الظروف المتوفرة لليوان الصيني للتحول إلى عملة عالمية تستخدمها البنوك المركزية كاحتياطي نقدي؟

 

تختلف ظروف تطور الاقتصاد الصيني وانتقاله إلى مصاف الاقتصادات المتطورة، جذرياً عن تلك التي توفرت للاقتصادين البريطاني والأمريكي، أو الياباني إلى حدٍ ما، وساعدت مجموعة من العوامل الذاتية في تطويره وتنمية قدراته التصديرية، ليتحول إلى أكبر قوة تصديرية في العالم، لكن لم يحظ بالفرص المسهِلة لتحويل عملتها إلى أحد العملات المستخدمة في التداول الدولي، وظلت في مواجهة صعبة مع الدولار الأمريكي الذي استخدمته الصين في تجارتها الدولية وجميع تعاملاتها الخارجية، إذ سادت لدى سلطاتها القناعة التي تشجع على السعر المنخفض لليوان مقابل الدولار الأمريكي، لتحقيق هدفين، وهما: زيادة احتياطي المصرف المركزي الصيني من الدولار الأمريكي، وتشجيع التصدير خارجاً.

 

ولّدت هذه السياسة الصينية أحجاماً كبيرة من الاحتياطي النقدي بالدولار الأمريكي في المصرف المركزي الصيني، وأدت إلى تكوين علاقة قوية بين النمو الاقتصادي في الصين وكمية الدولار الأمريكي المحول إليه، لذلك تعد عملية التخلص منه معقدةً للغاية وأشبه بالانتحار، وبالتالي القضاء على كل المكاسب الاقتصادية التي حققتها الإدارة الاقتصادية الصينية من سياساتها في الاعتماد على الأسواق الخارجية لتحقيق النمو الاقتصادي وقبولها للدولار الأمريكي لتسديد قيمة صادراتها، إضافةً إلى استخدام الدولار في تمويل استثماراتها الخارجية التي تتعاظم رويداً رويداً وتنتشر في القارات الخمس.

 

انعكست هذه السياسة الصينية في صورة انحسار وظيفة اليوان في تمويل النشاطات الاقتصادية الداخلية، فلم تستثمر الصين عملتها في تمويل نشاطاتها الخارجية. ونخص بالذكر هنا أنه كان بإمكان الصين استغلال الدول المقترضة منها والتي وقعت في فخ مديونيتها المتعاظمة في القارتين آسيا وأفريقيا وفرض استخدام عملتها عليها، تماماً مثلما حصل للدولار الأمريكي بعد قرار نيكسون الذي استغل انتشار الدولار الأمريكي خارجاً بموجب اتفاقية بريتون وودز، والذي أعلن عن فصل الدولار عن الذهب وفرض استخدام الدولار على جميع الدول التي تملك كميات كبيرة منه.

 

إن ما حصل للاقتصاد الصيني بخصوص استخدامه للدولار واليوان هو أشبه بفخ أوقع الاقتصاديون الصينيون بصورةٍ غير مقصودة أنفسهم فيه، نتيجة حاجتهم للعملات الصعبة في بداية الانطلاقة الصينية نحو الانفتاح على الخارج، وتوقعوا أنهم سيتمكنون من تحديد مصير الدولار الأمريكي باستحواذ كميات كبيرة منه، إلا أن ما حصل لم يكن كما تشتهيه السفن الصينية، فقد أصبح الصينيون يدافعون عن السعر المرتفع للدولار الأمريكي، حفاظاً على مكانتهم التصديرية في الأسواق العالمية، وإن أي تخلص منه لا يعني بالنسبة لهم سوى تخفيض قيمته في الأسواق واشتداد حدة المنافسة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على الأسواق الخارجية، وعندئذ سيرجح كفة الميزان لصالح الولايات المتحدة. وتشكل هذه النقطة واحدة من أكبر العوائق أمام تحويل اليوان إلى عملة عالمية، فالدولة التي تملك الحق الحصري في إدارة شؤون هذه العملة تخشى من تحويلها إلى عملةٍ إحتياطية في البنوك العالمية، في الوقت الذي ترغب بذلك كثيراً.  

 

أمام هذا الواقع المتناقض قدم مجموعة من الاصلاحيين الصينيين مشروعهم في تنمية الأسواق المحلية وتحقيق التوازن ما بين الأسواق الداخلية والخارجية، ويرون بأن ذلك سيخفف من اعتماد الصين على الدولار الأمريكي، مقابل تحقيق تنمية اقتصادية تؤدي إلى تطوير الأسواق المحلية وخلق الطلب فيه بشكل متوازن مع الأسواق الخارجية.

 

أقدمت السلطات الصينية على القيام بتجربة الاعتماد على اليوان الصيني في المعاملات الخارجية، في هونغ كونغ التي تتمتع بنظام اقتصادي مختلف نسبياً عن النظام الاقتصادي الصيني ذات الطبيعة المركزية الشديدة.

 

لقد أدت تلك التجربة إلى ارتفاع سعر اليوان في هونغ كونغ مقارنة مع بكين، وفي ذلك دلالة واضحة على أن قيام الصين بتدويل عملتها ستؤدي إلى ارتفاع قيمتها، وانخفاض حجم الصادرات فيها، مما يعني مواجهتها لحالة ركودٍ مؤكدة في ظل ضعف الطلب في الأسواق المحلية. ينجم عن هذه الحالة المتوقعة بقاء الصين في دوامة الدولار، حيث انعدام القدرة على التخلي عنه، وكذلك السلبيات الكثيرة الناجمة عن الاحتفاظ به.

 

إن قوة التطور في الاقتصاد الصيني الذي أدهش المتابعين له، هو وحده الكفيل بمعالجة هذه القضية المعقدة في الاقتصاد الصيني، نظراً لتدويل العملة وتعويمها من أهمية كبيرة في الاقتصاد الذي يحتل المرتبة الثانية عالميا، والذي تشير التوقعات إلى أنه سيحتل المرتبة الأولى بحلول العقد القادم، مع فرضية بقاء النمو الاقتصادي ثابتاً في كل من الولايات المتحدة والصين على معدلاته الحالية، فالعقول الاقتصادية التي تمكنت من إدخال الصين في المعادلة الاقتصادية العالمية وجعلها رقماً صعباً فيها، يمكنها أن تبحث عن الأليات المناسبة لإخراج بلدها من الدوامة التي وقع فيها، نتيجة ظروفٍ أجبرتها على ذلك، وإلا ستصبح المعجزة الصينية جزءاً من التاريخ الاقتصادي لا ينفع إلا للتدريس في أكاديميات الاقتصاد، ومازال المثال الياباني ظاهراً للعيان، ويفرض على القادمين الجدد إلى الأسواق العالمية استخلاص الدروس التي تفيدهم لعدم الوقوع في السقطة اليابانية.

 

تبقى الأحلام الصينية الكبيرة في تأسيس منظمات مالية تؤمن لها السيطرة على أكبر قارات العالم، وتُقدم على أنها مؤسسات بديلة لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، وكذلك مشروع الحزام المعلن عنه منذ أكثر من عشر سنوات لتأسيس القطب الصيني الذي يسعى إلى نقل مرك ثقل النظام المالي الدولي من أقصى غرب الكرة الأرضية إلى أقصى شرقه، رهينة الدولار الأمريكي وقوة الشبكة العنكبوتية الواقعة تماماً تحت السيطرة الأمريكية، ويبقى تحويل تلك الأحلام إلى حقائق مرتبطاً بسحب اليوان البساط الآسيوي والأفريقي من الدولار الأمريكي في مرحلته الأولى، فهل سنرى عصر تسليم الراية لآسيا بعد احتكارها غربياً منذ خمسمائة عام.

 

أياً كان حامل الراية فالهدف ما زال بعيداً عما يختلج صدور الفقراء وأبناء مدن الصفيح، إنه مجرد تبادلٍ للأدوار بين الكبار، وما زال الصغار يرقصون من آلام الذبح في مقاصل الشركات المتعددة الجنسيات وآثارها البيئية.