د. أحمد يوسف
لم تكن العلاقات الأمريكية -الإيرانية، في ظاهرها، قائمةً على المواءمة بين الطرفين منذ انقلاب الإسلاميين على حكومة الشاه عام 1979م، وظلت عرضةً للتوترات المتواصلة والمتصاعدة من حين لآخر على مدى أربعة عقود، كانت تكفي لسقوط أحد الطرفين، لو كانت تمتلك صفة الجدية في طبيعتها، ولا شك الطرف الإيراني هو الذي يملك مقومات السقوط أمام جبروت أعتى قوة عالمية. وهو الأضعف في المعادلة غير المتوازنة بينهما. على العكس مما كان متوقعاً، فقد توسعت الهيمنة الإيرانية في كل محيطها الممتد من القوقاز إلى البحر الأحمر، على مرأى من الأمريكيين.
إذا كان ذلك التوسع الإيراني أمراً اعتيادياً في كل محيطه، فهو ليس كذلك في العراق ما بعد صدَّام وحكم البعث فيها، وكذلك في الحدود الشمالية لفلسطين، نظراً لأن الأولى هي نتاج التحركات الأمريكية لقيادة تحالف دولي من أجل إنهاء النظام العراقي، ومن خلاله إطلاق رصاصة الرحمة لمنظومة الدولة القومية، بما فيها إيران التي ألبست قوميتها رداء الدين من البوابة الطائفية المتشددة لتأمين المخزون البشري في مشاريعها المختلفة. لذلك تمتلك الجغرافيا العراقية، أمريكياً، أهميةً استراتيجية للانطلاق نحو بناء الشرق الأوسط الجديد، وما تركه لإيران إلا مثار تساؤلات كثيرة، قد يصعب الإجابة عليها في راهن الحال. أما الثانية فهي على حدود الدولة المتمتعة بكل المزايا التفضيلية للدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن إحاطة إسرائيل بمنظمتين إسلاميتين إرهابيتين في قوائم الدول العظمى، وتتمتعان بعلاقات مميزة مع مصدر تمويلهما الواحد ربما، على الرغم من الاختلاف والخلاف الطائفي الذي يغوص في أعماق التاريخ بينهما، يشكل أيضاً مصدراً هاما لمجموعةٍ من التساؤلات التي قد توجهنا نحو القدرة الفريدة للمنظومة الدولية القائمة على ضبط التناقضات بمختلف أشكالها عبر أدواتٍ توحي سلوكياتها أنها ليست كذلك. وهنا نعتقد باستحقاق إيران لأوسمة على صدر سلطاتها نتيجة نجاحها في تدجين الجزء الإسلامي من الحركة الفلسطينية في قنوات ترسمها وتحدد ملامحها بما يكسبها رضى أولي الألباب من القوى الدولية.
لا بد أن تنعكس التعقيدات الظاهرة في طبيعة العلاقات الأمريكية –الإيرانية على المشاهد المثارة بينهما بعد الانتفاضة الثالثة في العقدين الأخيرين، الفاشلة، تحت وزر القوى الدولية الصامتة أمام انتهاكات السلطات القامعة لها، خلال أقل من عشر سنوات، والتناقضات البارزة بينهما في الحدث السوري، عبر أفعالٍ قد تكون غير معتادة وذات تكلفة مرتفعة لأحد الطرفين. ويبدو أنه جاء إنهاء دور رجل إيران الأول ومهندس سياساتها الخارجية، دون إنهاء الوظيفة المناطة به في إطار هذه التعقيدات.
لن يرى المتابعون لتبعات حدث تصفية سليماني سوى قيام السلطات الإيرانية بتأسيس قواعد جديدة في السياسة الخارجية، سمتها الانكماش الجزئي، والتكور على الذات بما يتناسب مع مصالح القوى الدولية في محيطها، وتؤكد الدبلوماسية الإيرانية على قدرتها في تجاوز المصاعب التي تعترضها في علاقاتها الإقليمية والدولية، ولا تتردد في إزالة العوائق المحلية ضماناً لحسن أدائها لمهامها، لذا لا يُستبعد أن ترى الإدارة السياسية الإيرانية في إنهاء دور قاسم سليماني، الشخص، حماية للدور الإيراني في محيطها، وإبعاد شبح العزلة الدولية عنها إلى أجل غير مسمى. فالاشتباكات الوهمية التي تجاوزت قواعد الاشتباك العسكري، في جغرافيا ليست للطرفين، لكنها ذات أهمية استراتيجية لكليهما، ترجح تغيير قواعد التعامل وملامحها في مرحلة ما بعد سليماني، وسيرها على النحو الذي يجعل من إيران مؤطراً بقوالب تفرضها الطبيعة القاسية للعلاقات الدولية في ظروف التغيرات الجوهرية. يساعدها في ذلك القوة الكبيرة لقوى داخلية موازية تشكل أخطبوطاً اقتصادياً، وتتمسك بمفاصل الحياة الإيرانية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لقد بذل النظام السياسي الإيراني جهوداً كبيرة في بناء نظام أمني وعسكري واقتصادي موازي لنظامها الإداري، وذلك في إطار سعيها لتخفيف الآثار المترتبة على العقوبات الدولية من جهة، ولتعزيز قوة مراكز القبضة الأمنية ضد التهديدات الداخلية من جهة أخرى، وذلك عبر تأسيس شبكة أخطبوطيه ما بين المرشد الأعلى والحرس الثوري الإسلامي وكيانات اقتصادية ضخمة تتبعها عبر قنوات خارجة عن إرادة سلطة مؤسسات الدولة الإيرانية الرسمية.
تُعد مؤسسة "البونياد" التابعة للمرشد الأعلى مباشرة حالة موازية تماماً في الاقتصاد الإيراني، تتجاوز قيمة أصولها /10/ مليار دولار أمريكي، ويعمل فيها أكثر من مائتي وخمسين ألف شخص. باشرت نشاطاتها في الأعمال الخيرية وتقديم الخدمات لفقراء إيران وذوي الشهداء، وتوسعت نشاطاتها لتشمل جميع القطاع الاقتصادي، كما أنها توسعت خارجاً من خلال انتشار نشاطاتها الاستثمارية في آسيا وأفريقيا ودول الشرق الأوسط، لتشكل غطاءً للاستخبارات الإيرانية في ممارسة نشاطاتها الخارجية، ولا سيما دعم عملية تخصيب اليورانيوم في المفاعل النووي الإيراني. لا تخضع هذه المؤسسة للرقابة الحكومية ولا لمحاسبتها، وهي ليست مضطرة للكشف عن أصولها أو نشاطاتها. وتلعب دوراً كبيراً في نشر ظاهرة التشيع في محيطها.
أما الحرس الثوري الإسلامي، فقد انغمس في النشاطات الاقتصادية بعد الحرب الإيرانية -العراقية في العام 1988م. وهو يمارس نشاطاته في مختلف القطاعات الاقتصادية، إذ يملك /51%/ من أكبر مشغل للاتصالات في إيران (TCA) بقيمة /8/ مليار دولار أمريكي. وبذلك يضمن ضبط عمليات الاتصال ومراقبتها والتدقيق فيها، كما أنه المسؤول عن الاقتصاد الأسود في إيران من خلال تجارة الممنوعات وتهريب النفط المدعوم إلى خارج إيران محققاً من هذه التجارة السوداء ما يعادل /12/ مليار دولار أمريكي سنوياً.
على الرغم من استهدافه في العقوبات الغربية، يلعب الحرس الثوري دوراً هاماً في كسر قواعد تلك العقوبات من خلال بناء العلاقات المشبوهة مع الشركات الأجنبية الراغبة بالتعامل مع إيران بأساليب الالتواء على العقوبات.
يملك الحرس الثوري أكثر من /100/ شركة عملاقة في جميع المجالات أهمها شركة "خاتم الأنبياء" والمؤسسة "التعاونية" للحرس الثوري ومؤسسة "كوثران"، ويلقى دعماً كبيراً من المرشد الأعلى لتقوية دوره في الاقتصاد الموازي، لضمان ولاء كبار الضباط فيه.
طورت إيران تحالفاتها مع الصين وروسيا والهند ودول أمريكا اللاتينية، استكمالاً لمشروعها في لجم آثار العقوبات الاقتصادية، وحققت نجاحات محدودة في مسار سياساتها الاقتصادية عبر تلك التحالفات في ظل العقوبات الدولية التي اتجهت نحو التشدد، عبر منعها من التعامل مع النظام المالي العالمي اعتباراً من العام 2011م.
إن إدراك مؤسسة المرشد والحرس الثوري، بهياكلها الأخطبوطية ومؤسساتها الاقتصادية الموازية، لحقيقة الآلية التي يديرون بها إيران في ظل العقوبات الخارجية والضغوطات الداخلية التي تتجه نحو التسارع واختصار الفترات الزمنية بين الفورات المجتمعية، يفرض عليها لجم المنهجية التصعيدية في أزماتها الخارجية، لا رغبة منها في ذلك، وإنما اضطراراً لإدارة التناقضات التي أوقعت حالها فيها عبر الخطاب الناري والفعل المناقض له، وذلك للحفاظ على المنهجية الصعبة لإرادة مجتمعٍ قائمٍ على التنوع، وأرغم على تبني لون واحد مفروض عليه من مؤسسات السلطتين الرسمية الموازية، وإدارة مهامها الخارجية وفقاً للتوازنات التي ترسمها القوى العالمية، لإبعاد شبح الأجل المحتوم.