د. أحمد يوسف
ظلت العلاقات السورية -التركية ذات طبيعة إشكالية مصبوغةً بعوامل التنافر، النابعة من التناقضات المتولدة من اختلاف الاتجاهات السياسية ووجهات نظر الطرفين في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، وشهدت تلك العلاقات ارتفاع حدتها لتبلغ ذروات متعددة من التنافر، لعل أولها كانت عملية سلخ لواء إسكندرون بتواطؤ فرنسي في نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم. وكانت الأحداث المتسارعة الناجمة عن التهديدات التركية بالحرب على سوريا بسبب مواقف الأخيرة من القضية الكردية في تركيا، والتي تمخضت عنها اتفاقية أضنة الأمنية التي غيرت مجرى العلاقات بين الطرفين من حالة التنافر والتضاد في المواقف إلى حالة التقارب، الشكلي، التي أقنع الطرف السوري نفسه بجديتها خلال سنوات شهر العسل السوري –التركي الممتدة خصوصاً ما بين عامي 2000 و2010.
أوحت مجريات الأحداث وطبيعة العلاقات خلال العقد الأول من القرن الحالي بأن صيغة التنافر بين الطرفين السوري والتركي قد باتت جزءاً من ماضي العلاقات بين الدولتين، وتمكنا على أساس تلك الصيغة من بناء منظومة علاقات بدأت بالسير تدريجياً نحو المستويات الاستراتيجية على الرغم من فعالية قوة التناقضات بينهما. فقد انطلقت هذه العلاقات من قمة التوتر، التي كادت أن تنتهي بحرب مجهولة النتائج، في العام 1998 إلى مجلس التعاون الاستراتيجي في العام 2009. ولّد هذا التطور المذهل في شكل العلاقات السورية –التركية لدى المتابعين لها قناعةً أن عقود التناقض قد ولَّت وتم استبدالها بصفحات التقارب والتشارك في المصالح.
ما غاب عن وجهة نظر المتفائلين بتطور العلاقات السورية – التركية هو الطبيعة المعمقة للعلاقات الدولية بصورة عامة وخضوعها لاعتباراتٍ كثيرة تتحكم بحجم تطورها بين الأطراف، وإذا كانت تلك العلاقات تمتلك سمة الانسيابية عندما يكون الأمر متعلقاً بالدول الواقعة في محاور سياسية واقتصادية وعسكرية متشابهة أو متقاربة، فإنها، وبلا شك، ستكون عرضةً للعراقيل الجدية في حال تعلقها بالدول المنتمية إلى محاور وتحالفات مختلفة. واقع حال العلاقات السورية –التركية لم تكن توافقية يوماً، وتشير المعطيات إلى أنها لن تكون كذلك نتيجة خضوعها لاعتباراتٍ تنافرية أقوى في تأثيراتها المعرقلة لتطور العلاقات من عوامل التجاذب الضعيفة. فما الذي أدى إلى بروز الحالة التفاؤلية في العلاقات بين الطرفين، على الرغم من تأسيسها على تناقضات جوهرية في رؤيتهما للقضايا المختلفة، إضافةً إلى التنافر النابع من قضية سلخ لواء إسكندرون السورية؟.
لقد شهدت المنطقة تغيرات دراماتيكية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، السند الرئيسي للنظام السوري، وألقت بظلالها على النظم السياسية في المنطقة وجعلتها عرضةً لضغوطاتٍ لم تكن تشكل عبئاً ثقيلاً عليها في المرحلة السابقة للانهيار، وكان النظام السياسي السوري، دون منازع، من أكثر الأنظمة عرضةً للضغوطات الخارجية، التي فرضت عليها مجموعة من الضغوطات التي أدى إلى إذعانها وقبولها لمؤتمر مدريد في عام 1992 لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتلاها خضوعها للشروط التركية في اتفاقية أضنة الأمنية في عام 1998. مهما تكن تلك الاتفاقية ضاغطةً على سوريا، فإن الأخيرة رأت فيها بصيصاً لإنهاء العزلة التي تعيشها بعد فقدانها للمظلة الحامية لها، لذلك تمسك الطرف السوري بتطوير العلاقات مع تركيا، الجارة الشمالية التي تمتلك مصادر قوة نسبية، تستند فيها على علاقاتها المتطورة مع الدول الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية.
كان الأمر مختلفاً من الطرف الآخر، الذي شعر بالقوة بعد تمكنه من فرض اتفاقية أضنة دون أن يقابل ذلك تقديمها لتنازلات محددة تساعد في تطوير العلاقات البينية، بل على العكس من ذلك تماماً. فقد اعتمدت منهجية التدرج في تطوير علاقاتها مع الجانب السوري بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والأمنية. واستغلت قرارها في منع استخدام القوات الأمريكية لأراضيها في احتلال العراق في عام 2003 في تنمية نشاطاتها التجارية عبر الأراضي السورية، بعدما هللت سوريا لتلك الخطوة، خاصةً أنها كانت تخشى حصول أحداث مشابهة للحدث العراقي على أراضيها.
نتيجةً لظهورها بمظهر القوي، لم تجر تركيا أي توازنات جديدة في علاقاتها الخارجية، على عكس الطرف الآخر، لذلك لم تطرأ تغيرات على مواقفها بخصوص الأزمات التي كانت تتعرض لها سوريا، خلال تطوير علاقاتها مع تركيا. فقد أعلن عبدالله غول في معرض الموقف التركي بخصوص اتهام سوريا بمقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري أن تركيا لا تتعاطف مع سوريا، على الرغم من أنها اتخذت مواقف إيجابية تجاه تركيا في السنوات الأخيرة. كما أنها لم تحجم عن تقديم إدانة هجوم الطائرات الإسرائيلية على ما قيل أنها منشآت نووية في دير الزور في أيلول 2007 فحسب، بل فتحت مجالها الجوي أمامها لتنفيذ عملياتها. واتخذت موقفاً مؤيداً لإسرائيل في حرب تموز لعام 2006. إن كل تلك المواقف والأحداث تؤكد بقاء تركيا في فلك علاقاتها السابقة، والمتناقضة بالضرورة مع المصالح السورية. وإن كان لذلك دلالة سياسية فإنها تدل على غياب الاعتبارات السورية في الحسابات والتوازنات التركية.
رغم كل المواقف التركية السلبية في عهد تطور علاقاتها مع سوريا، فإنها حظيت باتفاقيات اقتصادية وتجارية كادت أن تسيطر من خلالها على عاصمة الاقتصاد السوري، مدينة حلب الأقرب إلى عينتاب، التي تحولت تدريجياً إلى سوقٍ استهلاكية للمنتجات التركية، إضافةً إلى زحف المنشآت الاستثمارية التركية نحوها. وكللت كل سلوكياتها الاقتصادية تجاه سوريا بتوقيع /30/ مذكرة تفاهم شاملة جميع المجالات بدءاً من الدفاع والأمن وانتهاءً بالصحة، وذلك في الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي المنعقد في الشهر العاشر لعام 2009.
تؤكد طبيعة العلاقات السورية –التركية، خلال الفترة الممتدة ما بين اتفاقية أضنة في عام 1998 والأزمة السورية في عام 2011 على حقيقة أن سوريا كانت ترى في تلك العلاقات طوق نجاتها من الضغوطات الخارجية، لذلك اقترنت بتقديمها لتنازلات اقتصادية وسياسية، وقابلها رؤية تركية تؤكد على اعتبار سوريا طرفاً خاضعاً لإذعانها وسوقاً لمنتجاتها وبوابةً على حدودها الجنوبية، دون أن تؤثر تلك العلاقات على توازناتها السياسية الإقليمية والدولية.
أكدت الأحداث السورية في عام 2011على تلك الرؤية التركية اتجاه سوريا الدولة والنظام، فما كان إعلانها عن وقوفها إلى جانب قوى المعارضة السورية الإخوانية، إلا إعلاناً عن تأكيدها على الالتزام بعوامل التنابذ في علاقاتها مع سوريا، حيث تخطو خطوتين إلى الوراء مقابل كل خطوة كانت تلقيها نحو الأمام في علاقاتها معها، وحرصها على السيطرة على كامل الجغرافيا السورية، وإن كان ذلك ضرباً من المستحيل في ظل التوازنات التي تضعها القوى الدولية بتدخلها في الملف السوري كلياً.