د. أحمد يوسف
تعاني تركيا واقتصادها من التبعات السياسية لممارسات العدالة والتنمية المتحكم بمقدرات البلاد منذ عام 2002، رغم المظاهر التي أوحت بقوة لتطور قطاعاته التي شهدت تصاعداً وهمياً، تأكدت حقيقته فيما بعد، مع عوامل الجذب الشعبوية، البعيدة عن منطق السياسيين الساعين إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في خطابات أردوغان، في محاولةٍ حثيثة منه للتغطية على سياساته الاقتصادية وسلوكياته السياسية الناهشة لجسد الدولة والمجتمع التركيين المثقلين بوطأة انعكاسات تلك السياسات والسلوكيات المتناقضة كلياً مع ما تشهده الساحة الشرق الأوسطية من تطورات جيوسياسية تشكل قاعدةً للتغيير الشامل في بنية المنظومة القائمة فيها منذ ما يتراوح حوالي قرن. وهذا ما يؤدي إلى تطور المناخ المساعد ليس في توسيع هوة الانفصام الاجتماعي بين مكونات الدولة بصيغتها الراهنة فحسب، بل في الحزب الذي استمد منه أردوغان كل قوته وجبروته للتحكم بإرادة ثمانين مليوناً من خلال انتقاله من الحاكم المنتخب شعبياً إلى الحاكم المختار رغماً عن الأخير.
لقد اعتمد في تنقلاته تلك على توظيف جميع مؤسسات الدولة عبر بناء شبكتي الفساد وإرهاب الدولة لضمان جعله الحاكم بأمر الله.
باتت عوامل استمرار العدالة والتنمية موحدة ومتحكمة بزمام المبادرة في أنقرة بعد ما شهدته تركيا من تطورات متسارعة بعد أحداث عام 2016 وما تلاها من تصرفات تقويض الممارسات الديمقراطية في البلد، غائبةً في المشهد التركي بعد ارتفاع الأصوات الرافضة لتوجيه تركيا نحو عزلةٍ إقليمية وعالمية من داخل الحزب، إلا أن تمركز السلطات في رأس الهرم وحاشيته الضيقة قد جعلت من الاستحالة إدامة الصراع في القنوات الداخلية للحزب، ولا حيلة أمام المعارضين سوى الانتقال إلى خارج أسوار الحزب للتعبير عن قناعاتهم وإبداء آرائهم في مآلات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي التركي لكسر قواعد تفرّد أردوغان بقيادة الحزب والدولة معاً. وما قيام داوود أوغلو وبابا جان سوى خطوة البداية في مسيرة انتهاء شهر عسل تيار الإسلام القوموي في تركيا والدخول في خريف العدالة والتنمية وزعيمها.
الإنشراخ الداخلي
أدى تراكم النقاط الخلافية وتعدد وجهات النظر بخصوص القضايا الداخلية، ولا سيما القضية الكردية، باللجوء إلى الأساليب العلاجية التقليدية التي طالما استخدمتها الحكومات التركية المتعاقبة، إلى بروز تعقيداتها وتبعاتها الخطيرة على الكيان الذي أسسه مصطفى كمال على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وانعكست على مكانة الحزب الذي تعامل معها بازدواجية فاضحة على مدى ما يقارب العقدين، مما أدى إلى دخوله في نفقٍ مظلم يؤكد انعدام إمكانية العودة إلى الوراء لتصحيح المسارات بخصوص جميع القضايا الداخلية، بعدما تجرأت الأصوات المعارضة على المباشرة بتأسيس كياناتها العاجزة عن إجراء أية تغييرات على مستوى العمق في السياسة الداخلية التركية، ولن يتجاوز دورها الحد من القدرات الشمولية للعدالة والتنمية، والتوجه بتركيا نحو حالة الفوضى السياسية التي قد تجرّ خلفها فوضى اجتماعية في ظل تأكد فشل المشاريع الاقتصادية للحزب.
لم تتمكن الحكومات المتعاقبة للعدالة والتنمية من لجم الضغوطات التضخمية وتخفيض مستويات البطالة وتحسين المركز الائتماني، والحد من توسع حجم المديونية الخارجية، كل ذلك إلى جانب هجرة بعض رؤوس الأموال الأجنبية للأسواق التركية خوفاً من انهيارات اقتصادية متوقعة بفعل اجتماع العوامل الداخلية مع تطور التهديدات الخارجية، ولا يمكن إعطاء تفسيرات أكثر قوة لمواجهة الأعداد المتزايدة للشركات التركية لمخاطر الإفلاس إلا من زاوية فشل السياسات الاقتصادية للعدالة والتنمية.
سقوط الأقنعة خارجياً
ساعدت ظروف الاستقرار الوهمي التي سادت قبل الأزمة التي سُمِّيت بالربيع العربي في الحدود الجنوبية البرية والبحرية لتركيا حكومة العدالة والتنمية على تأجيل تأجيج النيران الداخلية، مستفيدة في ذلك من مجموعة عوامل ذات أبعاد فكرية وميدانية تم اختصارها في استراتيجية "صفر المشاكل مع الجوار". وتمكنت بفضلها من التوسع جنوباً من خلال بناء شَرَاكاتٍ أوهمت الآخرينَ وخدمت أطماعها التوسعية على الأسس السلمية، لكن الرياح لم تجرِ كما تشتهيها سفينة العدالة والتنمية، التي تاهت في عرض أزمات الربيع العربي. فما كان منها سوى إنهاء استراتيجيتها المزعومة، للانتقال إلى الضفة الأخرى من الأحداث، في محاولة منها لتعظيم حجم المكاسب من سياساتها التوسعية، واعتقدَ رأس الهرم في سلطة العدالة والتنمية أنه إذا كانت تركيا تحقق مكاسب جزئية من علاقاتها المتحسنة مع الجوار في ظل استراتيجيتها السابقة، فإنها تحقق مكاسب كلية باتخاذ قرار الادعاء بالوقوف إلى جانب القوى المعارضة والاستحواذ عليها، خاصةً تلك المصبوغة بالصبغة الإسلاموية المتجانسة مع تطلعات العدالة والتنمية وأطماعها.
لقد حققت بعضاً من النتائج الإيجابية في السنوات الأولى من الأزمة الشاملة في الدول المعنية بالأمر، وسرعان ما تحولت تلك النتائج إلى أعباءٍ ليس أمام العدالة والتنمية سوى تحملها بعد انغماسها أكثر في أوحال المستنقعات التي صممتها القوى الدولية، ودخلت في خط اللاعودة بعد توسع حجم التناقضات مع الجوار تحت تأثير القضايا المختلفة بدءاً من القضية السورية وانتهاءً بالقضية الليبية ومروراً بالقضية القبرصية بما تحملها من تعقيدات بعد الاكتشافات المؤكدة للكميات الهائلة للغاز في كل الجغرافيا المتوسطية المحيطة بتركيا. وقد أدى انغماس تركيا في أوحال القضايا المستعصية إلى فتح القوى الدولية لدفاتر القضية الأرمنية القديمة المتجددة.
تشكل التناقضات التركية مع توجهات السياسة الدولية عبئاً على العدالة والتنمية وقيادته المتفردة بقدر الشعوب التركية، ومدخلاً قوياً للتوجه نحو ضرب مشاريعه، وترسم تلك التناقضات ملامح بروز قوى جديدة في الساحة التركية، تنحصر وظيفتها الأساسية في إزالة تلك التناقضات لحماية الكيان التركي، وإن كانت مظاهرها مختلفة عن تلك السائدة في الجمهورية الأتاتوركية الطابع. ولا شك أن ذلك يفرض على تلك القوى العمل أولاً على تحييد العدالة والتنمية من المعادلة التركية الداخلية.
تراكم إرث الجريمة السياسية (إرهاب الدولة)
ربما توقع المتابعون في السنوات الأولى من عمر العدالة والتنمية قدرتها على معالجة القضايا الداخلية العالقة نتيجة تراكم إرث ثقيل من الجرائم بحق مختلف المكونات التركية، لا سيما المكونين الكردي والمسيحي، واعتمدوا في توقعاتهم على بعض التصريحات والسياسات التي بدت وكأنها أكثر ليبرالية مقارنة مع السياسات التي سبقت عهدها، إلا أنه يُقالُ بأن الأمور بخواتمها. تأكدَ أن الخواتم لا تحيد عن النهج الذي تم اعتماده لبناء تركيا الكمالية، فعلى الرغم من المبادرة القوية التي أطلقها أوجلان من منفردته في سجن "إمرالي" عبر إعلانه عن إسكات السلاح وإطلاق المبادرات السلمية لأهم قضية سياسية في تركيا، لم تتمكن العدالة والتنمية من اتخاذ أي خطوة لإنجاح المبادرة التي تجعل التاريخ الجرمي لتركيا الحديثة جزءاً من الماضي المأسوف عليه، من أجل امتلاك المستقبل بصورة تشاركية.
قد تجلبُ الاستجابة السلبية لخطوات بناء الثقة ضرراً لأصحاب المبادرة، لكنها ستكون نقطة سوداء في مسيرة الرافض لها، وستؤدي إلى تقلص دوره إلى أن ينتهي به الأمر إلى الزوال أو التحييد تماماً أمام قوة الحقيقة.
الحقيقة، أن العدالة والتنمية، إما أنها لم تستوعب أهمية معالجة الإرث الإجرامي لسابقيها في السياسة التركية، أو أنها استلمت هذه الأمانة منهم للانتقال بها إلى مراحل جديدة، وهو المرجح. في كلتا الحالتين ستكون ضحية ذلك الإرث الثقيل كما سابقاتها. لا تنفي هذه الحقيقة أن الشعوب التركية تتحمل الجزء الأكبر من تبعات ذلك الإرث الجرمي، الذي لا بد من البحث عن صيغ التكاتف لإيقافه. يحتاج هذا الأمر إلى تغيير الواجهة السياسية التركية في جوهرها، وإذا كانت العدالة والتنمية استمراراً للسلسلة المرسومة سابقاً للمنظومة القيمية للدولة التركية، فإن الحقائق التاريخية والمعطيات الجديدة في السياسة الدولية تؤكد على أنها ستكون آخر ضحايا الإرث الإجرامي الذي ورثته من سابقاتها من متسلطي رقاب الشعوب التركية. ويمكن الجزم بأن العدالة والتنمية في نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة ليست كالعدالة والتنمية في بداية العقد الأول منها. فإن كان المتابعون يرون في البدايات ربيعاً، فإننا نرى في النهايات خريفاً، وليس للربيع موعدٌ إلا مع من يملك الجرأة والوسائل الكافية لتغيير صورة تركيا كلياً ويطوي تاريخاً من السواد الحالك.