على وقع التدخل العسكري التركي في ليبيا، تحولت الأخيرة إلى ساحة مواجهة إقليمية ودولية كبرى، إذ أعلن اللاعبون المعنيون بالأزمة الليبية عن خطوطهم الحمر، وعن استعدادهم للحرب من أجل هذه الخطوط، حتى باتت البوارج والطائرات والسفن الحربية تجوب المتوسط في مناورات بالجملة، حيث يريد كل طرف من هذه المناورات، إرسال رسائل سياسية ودبلوماسية وحربية تعبر عن استراتيجيته، فما هي هذه المناورات؟ وما هي الرسائل منها؟.
1ـ مناورات تركية: عقب زيارة وزير الدفاع التركي برفقة رئيس الأركان إلى ليبيا، أعلنت تركيا أنها ستجري في الأيام المقبلة مناورات عسكرية قبالة السواحل الليبية، أطلقت عليها مسبقاً اسم "نافتيكس"، على أن تجري في ثلاث مناطق تحت اسماء مختلفة هي: (بربروس، ترجوت رئيس، تشاكا باي)، وهي أسماء قادة كانوا في البحرية العثمانية. والسؤال هنا ما هي رسائل تركيا من هذه المناورات؟ لعل أهم هذه الرسائل:
– أن تركيا ماضية في سياستها العثمانية في ليبيا، وأنها غير معنية بالمبادرة التي طرحها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن تحقيق السلام في ليبيا.
– أن الضربة التي تلقتها تركيا في قاعدة الوطية حيث تم تدمير منظومتها الدفاعية والصاروخية لن تمر هكذا.
– أن هذه المناورات هي في إطار الاستعداد لمعركة سرت وصولاً إلى الهلال النفطي الليبي وذلك بعدما أعلن الرئيس السيسي أن ذلك خط أحمر.
– أن هذه المناورات هي رسالة إلى الدول المشاركة في عملية إيريني الأوروبية المكلفة بمراقبة ومنع تدفق الأسلحة والمسلحين إلى ليبيا، وهي رسالة تحدي لفرنسا ماكرون بالدرجة الأولى.
2- مناورات مصرية: وهي مناورات أطلق عليها اسم "الحسم" 2020، إذ استبقت مصر تركيا بإجراء هذه المناورات في المتوسط على شكل رسالة صارمة إلى تركيا، بأن مصر ملتزمة حتى النهاية بما قاله الرئيس السيسي عن استعداد مصر للتدخل عسكرياً إذ أقدمت تركيا على تجاوز الخطوط الحمر ولاسيما الهجوم على سرت والجفرة، وهذه الرسالة تأتي تعبيراً عن قرار سياسي من أعلى الهرم قبل أن تكون مجرد رسالة عسكرية تقليدية، إذ أن مصر باتت ترى أن الخطر التركي بات يحدق بأمنها القومي، خاصة وأن المشروع التركي يتجاوز ليبيا ويحمل معه بعداً ايديولوجي أدواته جماعات الإخوان المسلمين التي ربطت مصيرها بتركيا وباتت تعمل لحسابها ضد بلدانها الأصلية.
3- مناورات أوروبية تشارك فيها فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، ولعل أهم رسائل المناورة الأوروبية هذه، أن المتوسط سيظل حدوداً لأوروبا ولن تسمح الأخيرة لتركيا فرض سياسة الأمر الواقع في المتوسط، وأن لأوروبا مصالح استراتيجية في ليبيا لأسباب اقتصادية وجغرافية وأمنية وتاريخية، والأهم أن أوروبا لن تسمح لتركيا جعل ليبيا وغيرها من الدول الإفريقية منطلقاً لتهديد أمن دولها وشعوبها بعد أن جعلت تركيا من المرتزقة واللاجئين ورقة ابتزاز سياسية في وجه أوروبا.
4- مناورات أمريكية – قبرصية، وهي مناورات مهمة جداً، إذ للمرة الأولى سترفع الولايات المتحدة حظر السلاح عن قبرص، وستجري معها مناورات وتدرييات عسكرية مشتركة في البحر الأبيض المتوسط، ويأتي ذلك تعبيراً عن اهتمام أمريكي بالغ بالطاقة وتحديداً الغاز في المتوسط، إذ أن جميع المشاريع الإقليمية والدولية المطروحة بشأن الغاز في المتوسط تتخذ من قبرص نقطة مركزية لها لجهة التنقيب والنقل والإمداد والتصدير إلى الخارج، ومن دون شك، فإن هذا التعاون الحيوي بين قبرص والولايات المتحدة يثير استياء تركيا بشكل كبير وإن لم تعلن عنه إلى الآن بشكل صريح بسبب حساسية الموقف والتوقيت.
إلى جانب الدول التي أعلنت عن هذه المناورات، لا بد من التوقف عند الموقف الروسي، إذ رغم الدعم الروسي للجيش الوطني الليبي بزعامة اللواء خليفة حفتر، فإن موسكو تتحرك على مستويات عدة، فهي من جهة تجري مباحثات مع أنقرة للتوصل إلى تفاهمات، ومن جهة ثانية تدعم مبادرة الرئيس السيسي للتسوية في ليبيا، ومن جهة ثالثة تطالب حفتر والسراج بوقف فوري لإطلاق النار والدخول في مفاوضات مباشرة حيث استضافت في وقت سابق محادثات بين الجانبين، ومن جهة رابعة تبحث عن إقامة قواعد عسكرية لها في ليبيا في إطار التنافس والصراع مع أوروبا وأمريكا على أفريقيا.
في جميع الأحوال، المناورات الجارية في المتوسط، والرسائل السياسية والحربية منها، وتوقيتها … كلها مؤشرات تدل على أن الوضع في ليبيا والمتوسط وصل إلى مرحلة خطرة جداً، فهي تضع الأطراف المعنية أمام معادلتين لا ثالث لهما:
الأولى: هي الحرب بين هذه الأطراف وتحديداً بين مصر وتركيا، ويبدو أن هذا الأمر يتوقف على السلوك التركي في الفترة المقبلة، وتحديداً إذ ما قررت تركيا الهجوم على سرت، وحتى الآن كل المؤشرات توحي بذلك حيث يمضي أردوغان في إرسال الأسلحة والمرتزقة والسلاح وإقامة قواعد عسكرية جديدة وخطاب صريح عن وجود تركي دائم في ليبيا كما أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، إذ من دون شك مثل هذا السيناريو يقرب من المواجهة بين مصر وتركيا، وهو سيناريو مفتوح على كل الخيارات والاحتمالات ولاسيما لجهة إمكانية توسيع الحرب والأطراف المشاركة بها.
الثاني: أن تكون هذه المناورات بمثابة ذروة التصعيد العسكري بحثاً عن أفضل تسوية ممكنة لكل طرف، ولعل تأكيد الجميع على التسوية خياراً وحيداً لحل الأزمة الليبية يطرح مثل السيناريو، فيما يبقى موقف تركيا الاستثناء، فحديث أردوغان عن إقامة (الوطن الأرزق في المتوسط) وأحلامه العثمانية المحملة بحروبه العدوانية في ليبيا وسوريا والعراق وكردستان، وتهربه الدائم من أزماته الداخلية وتحويل كل شيء إلى مواجهة، ربما تصعِّب على المرء بأن الرجل سيحكتم إلى العقل والمفاوضات والسلام في ليبيا، فلسان حال الرجل يقول إن الأمن القومي التركي بات يتحقق من خارج الحدود التركية.
مع التأكيد على أن الجميع يعيش في قلق متصاعد بشأن ما يحدث في ليبيا والمتوسط، فإن الأنظار تبقى مشدودة إلى التحرك التركي في سرت وهل سيولد ذلك شرارة حرب مفتوحة على كل الاحتمالات؟.