في كتابه (غرفة الأحداث أو الغرفة التي شهدت الأحداث) يكشف مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون الكثير من أسرار البيت الأبيض، ولاسيما العلاقة التي تربط بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، وكيف انعكس ذلك على ملف كرد سوريا ومسلسل الاعتداء التركي عليهم خلال السنوات القليلة الماضية بضوء أخضر أمريكي، وفي كل ذلك تتجه الأنظار إلى المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا جيمس فرانكلين جيفري الذي يصفه بولتون بأنه أردوغاني الهوى.
جيفري القادم من مراكز الدراسات إلى المهام الدبلوماسية العليا والصعبة، عمل سابقاً سفيراً لبلاده في تركيا والعراق وألبانيا، على علاقة وثيقة بالمسؤولين الأتراك بما في ذلك أردوغان، ويجيد اللغة التركية جيداً، له نظرية خاصة لجهة العلاقة الأمريكية مع تركيا ودورها في تنفيذ الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وروسيا وإيران، إذ رأى الرجل كما جاء في مقالة كتبها في نشرة "فورين بوليسي" في كانون الأول عام 2018 أي قبل تسلمه مهامه، أن على بلاده التوفيق بين مصالحها ومصالح تركيا من جهة، ومن جهة ثانية لا يمكن لبلاده أن تنجح في سياستها تجاه روسيا وإيران في سوريا والعراق ما لم يتم استمالة تركيا إلى جانبها وأن تكون الأخيرة طرفاً في تنفيذ الأجندة الأمريكية، وهذا دور من طبيعة السياسة التركية الوظيفية في الاستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ومن ثم انضمام تركيا إلى الحلف الأطلسي عام 1952.
في الواقع، عندما تم تعيين جيفري في مهامه، كان الهدف الأساسي منه، هو إنقاذ العلاقة الأمريكية – التركية من الحفرة العميقة التي وصلت إليها، بسبب الخلافات العميقة بينهما على توجه تركيا لشراء المنظومة الصاروخية (إس ـ 400) من روسيا، والدعم الأمريكي في إطار التحالف الدولي لكرد سوريا، ومطالبة أنقرة لواشنطن بتسليم الداعية فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالتورط في المحاولة الانقلابية المزعومة الفاشلة عام 2016، وقضية الخرق التركي للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران وغيرها من القضايا الخلافية الكثيرة بين البلدين، فما الذي جرى؟ وهل نجح جيفري في مهمته؟ ومن ربح أكثر تركيا أم أمريكا في لعبة رهانات جيفري؟.
المطلع على ما جاء في كتاب بولتون المذكور، لا بد أن يرى حجم التنازلات التي حققها جيفري للجانب التركي، والتي يمكن تلخيصها في عدة نقاط أساسية:
1- إن جيفري كان السبب الرئيسي في تغيير البيان الذي قدمه الفريق الأمريكي الذي زار تركيا عام 2019 والذي كان مؤلفاً من بولتون إضافة إلى وزيري الدفاع والخارجية، إذ كان البيان ينص على الرفض القاطع لوجود القوات التركية خارج الحدود (أي في مناطق شمال شرقي سوريا) وعدم السماح للقوات التركية الاعتداء على الكرد، وتعهد الإدارة الأمريكية بحمايتهم من أي اعتداء تركي… لكن ما الذي جرى؟ في الواقع، الذي جرى هو أن جيفري نجح بعد شهر في تغيير هذا البيان على شكل تنازل لتركيا وضوء أخضر لها للقيام بعدوانها على المنطقة الواقعة بين رأس العين وتل أبيض، وكان شهيراً وقتها تصريح جيفري الحرفي الذي قال جواباً لسؤال له عن تعهد واشنطن بحماية الكرد من هجوم تركي "لم تكن هناك محادثات مع الأتراك بشأن حماية الكرد أو لوقف الغزو.. لأننا لانرى غزواً في الأساس" وهو التصريح الذي وصفه بولتون بخيانة بلاده للكرد، وهنا يبقى السؤال، هل تصرف جيفري هذا كان بالتنسيق مع ترامب؟ على الأغلب الجواب نعم.
2 – إن جيفري وبسبب مواقفه الموالية لتركيا تسبب إلى حد كبير بتدمير الثقة التي نشأت خلال فترة المبعوث الأمريكي السابق بريت ماكغورك بين الإدارة الأمريكية وكرد سوريا، بل أن جيفري أساء إلى هذه العلاقة عندما أشار مراراً إلى علاقة تجربة كرد سوريا بحزب العمال الكردستاني، وهذا في الحقيقة مطلب وادعاء تركي دائم، في المقابل تجاهل جيفري على الدوام الاعتداءات والممارسات التركية ضد كرد سوريا، إذ لم يقم ولو لمرة واحدة بإدانة هذه الاعتداءات علماً أن تركيا ارتكبت وما تزال المجازر ضدهم وغيرهم من شعوب المنطقة، والتي كانت أخرها القصف الذي طال قرية حلنج في ريف كوباني – عين العرب وذهب ضحيته عدد من الضحايا.
3- رغم كل الخلافات الأمريكية – التركية، فإنه بفضل العلاقة الخاصة بين ترامب وأردوغان وفي ظل دور حيوي لجيفري في هذه العلاقة، تمكن أرودغان من تدوير هذه الخلافات، إذ لم نشهد عقوبات وإجراءات أمريكية صارمة ضد تركيا كما وعدت واشنطن، عندما مضت أنقرة حتى النهاية في شراء (إس – 400)، كما أن قضية خرق تركيا للعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران تم تهميشها رغم أن التحقيقات الأمريكية أدانت بنك "خلق" التركي بشكل واضح، بل حتى العقوبات الشكلية التي فرضتها واشنطن على أنقرة على خلفية قضية احتجاز أنقرة القس برونسون تم رفعها من قبل ترامب، وهو ما أعطى قوة لأردوغان في الداخل.
4- في قراءة خلاصة رهان جيفري على دور تركي في السياسة الأمريكية لمواجهة روسيا وإيران في المنطقة، لا تبدو رهانات جيفري تحققت وإنما على العكس، إذ يبدو أردوغان هو الفائز حتى الآن، فالدعم الأمريكي لأردوغان في سوريا أدى إلى احتلاله لمناطق واسعة في شمال البلاد وشرقها وإلى تقوية موقفه في إدلب، وما جرى عقب العدوان التركي على رأس العين أدى إلى تقوية النفوذ الروسي في شرق الفرات عكس ما راهن عليه جيفري، كما أن رهانات جيفري لم تنجح في الحد من التقارب التركي مع روسيا بل اتسع هذا التعاون وبات يشمل ساحات غير سوريا، كما أن رهانات جيفري لم تنجح في وضع حد للتعاون والتنسيق بين أنقرة وطهران، ولعل ما يقوم به البلدان في إقليم كردستان العراق هذه الأيام من قصف مشترك، يؤكد هذه الحقيقة، فضلاً عن أن الخرق التركي للعقوبات الأمريكية على إيران مستمر.
من دون شك، رهان جيفري على أردوغان لم يكن دقيقاً بل كان فاشلاً بإمتياز، إذ أن ما جرى استفاد منه أردوغان في دفعه إلى إخراج مشروعه العثماني من درجه في قصره الأبيض ووضعه على طاولة الخرائط من ليبيا والصومال وشمال سوريا وشمال العراق وكردستان وصولاً إلى اليونان … وغيرها من المناطق والدول، ويبدو أن رؤية جيفري انطلقت من سياسة تركيا أيام الصراع بين حلفي (الأطلسي ووارسو) وليس من جمجمة أردوغان المتخمة بالأحلام والطموحات الجامحة وخرائط السيطرة، إذ ما جرى كشف حقيقة هذه الجمجمة التي باتت تستنزف تركيا، وتضعها في صدام مع عالم يرفض عودة عقارب الساعة إلى زمن السلطان، ويبقى السؤال، إلى متى ستبقى عقارب ساعة السلطان تدفع ببلاده نحو هاوية التورط في الخارج والاستنزاف؟ هل فكر مثلاً ماذا لو قدم جو بايدن بعد أشهر قليلة إلى سدة الحكم في البيت الأبيض خلفاً لربيبه ترامب؟.