أردوغان وقنديل … الحلم الذي يأمل منه إقامة السلطنة

 

تعود الحرب التركية على قنديل إلى أكثر من ثلاثة عقود، حرب شنت خلالها الحكومات التركية المتتالية أكثر من ثلاثين عملية عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني في معقله الحصين، هدرت فيها الكثير من الدماء والأموال والجهود والخطط العسكرية، حتى أصبحت قنديل أسطورة في أذهان الترك والكرد ودول المنطقة معاً، فجميع الحملات العسكرية التركية السابقة فشلت في الوصول إلى مقر قيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل الواقعة في المثلث الحدودي الواقع بين تركيا والعراق وإيران، إذ في نهاية كل حملة عسكرية فاشلة، يعاود الحزب الكردستاني هجماته ضد الجيش التركي فيما يعد الأخير لعملية جديدة، دون أن تستخلص الحكومات التركية المتتالية الدرس الذي يجب استخلاصه، وهو أن الحل الوحيد الممكن للقضية الكردية في تركيا هو الحل السياسي والسلمي، وهو الحل الأقل تكلفة والأكثر ديمومة، نظراً لأنه يتعلق أولاً وأخيراً بتحقيق دولة ديمقراطية، تحقق تطلعات الجميع على أساس التعددية والاعتراف بالآخر، بما يحقق الاستقرار والنمو والتنمية.

 

اليوم، ومع العدوان التركي الجديد ضد قنديل وإقليم كردستان والعراق باسم (مخلب النمر)، يقول المسؤولون الأتراك إنهم سيواصلون الحملة حتى الوصول إلى قنديل، ولعل الجديد هذه المرة، هو توسيع رقعة العدوان، إذ طال القصف منطقة شنكال/ سنجار ومخيم "مخمور" الواقع تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما يعد انتهاكاً للقرارات والقوانين الدولية التي تؤكد ضرورة حماية النازحين والمدنيين، ولعل ما شجع تركيا على القيام بهذا العدوان الجديد، جملة عوامل أساسية، إذ أن ما جرى في عفرين ومن ثم سري كانيه وتل أبيض، حفَّز نظام أردوغان على القيام بالمزيد من العدوان وتوسيعه نحو مناطق جديدة، كما أن ضعف موقف كل من بغداد وأربيل زاد من غطرسة التركي، ولاسيما في ظل استخدام أنقرة ورقة المياه ضد العراق، لكن الأهم هنا هو العامل الداخلي التركي المتعلق بحسابات أردوغان السياسية، فالرجل الذي يرى أن شعبيته تتراجع، وحزبه يتفكك وينهار على وقع استقالات كبار قادته، والمنشقون عنه يؤسسون أحزاباً جديدة، والمعارضة الشاملة تتصاعد ضد نظامه، والأزمات المالية والاقتصادية تتفاقم يوماً بعد أخر … أمام كل هذا لا يجد أردوغان سوى ممارسة لعبة شد أنظار الداخل إلى الخارج لزيادة شعبيته وخلق حالة من التعبئة والشعبوية، وهكذا ورط الجيش التركي في حروب كثيرة، من سوريا إلى ليبيا وصولاً إلى العراق، فضلاً عن توتير علاقات تركيا مع معظم دول العالم، ولاسيما أوروبا بعد توجهه إلى فرض سيطرته على المتوسط بحثاً عن الطاقة. وعليه مع دعوات معظم الأحزاب التركية والكردية إلى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، وخشيه أردوغان من أن يصبح هذا الأمر خياراً واقعاً، بات يرى أهمية الوصول إلى قنديل، إذ لا شيء يضاهيه قيمة في أي انتخابات مقبلة إذ تحقق له ذلك، فتحقيق هذا الأمر سيكون كافياً لحصد شعبية لم يحلم بها زعيم تركي من قبل، ولعله هنا يستذكر لحظة غزو الجيش التركي لشمال قبرص عام 1974، وهو الغزو الذي أنقذ حينها حزب رئيس الوزراء التركي الراحل بولند أجاويد من الانهيار، وجعل من أجاويد بطلاً قومياً، وهي لحظة تكررت عند اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان عام 1998 وجاءت من جديد بأجاويد إلى رئاسة الوزراء، سيناريو ربما يفكر به أردوغان طالما أن قنديل ستحقق له ما يسعى إليه، حيث الحلم بتحقيق الجمهورية التركية الثانية عام 2023، والتي هي في الحقيقة إقامة السلطنة العثمانية الجديدة التي تعشش في دماغ أردوغان وأفكاره وايديولوجيته.

 

في التوقيت، حمل العدوان التركي مؤشرات إقليمية خطرة، فالعملية العسكرية التركية جاءت عقب زيارة سرية قام بها رئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان إلى بغداد، وهو ما أوحى بوجود تفاهمات سرية بين الجانبين رغم الموقف العراقي الرسمي الرافض للعدوان التركي ومطالبته بوقفه كونه ينتهك السيادة العراقية، وعلى مستوى أربيل جاء العدوان بعد التطورات الميدانية في "زيني ورتي"، رغم أن تركيا تعيش فوبيا الحالة الكردستانية إزاء الإقليم كما ظهر جلياً خلال الاستفتاء الذي جرى في الإقليم قبل أكثر من سنتين، ولعل المؤشر الأخطر إقليمياً، هو تزامن القصف التركي مع القصف الإيراني لمواقع كردية تعود لفصائل كردية إيرانية في إقليم كردستان العراق، خاصة وأن هذا القصف جاء عقب زيارة قام بها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف إلى تركيا، حيث تحرص طهران وأنقرة على تنسيق مواقفهما وخطواتهما إزاء أي خطوة كردية في المنطقة، وما يريح أنقرة أكثر في عدوانها، هو أن اللاعبين الدوليين، أي روسيا والولايات المتحدة في تجاذب على ود تركيا لأسباب لها علاقة بالأزمتين السورية والليبية، إذ أن موقع تركيا في استراتيجية الطرفين يجعل من تقارب هذه الدول معها على أساس المصلحة أولاً وأخيراً، وهي معادلة جعلت من تركيا دولة إقليمية خطرة تقدم على العدوان هنا وهناك دون أي اعتبار لسيادة الدول وحقوق الشعوب.    

      

في انتظار نتائج العملية التركية، والتي تقول التجربة التاريخية إنها لن تختلف عن سابقاتها، تبقى أسطورة قنديل تحمل تعقيداتها الجغرافية، وهي تعقيدات تجعل من أسطورة قنديل قصة مفتوحة على كل الخيارات والسيناريوهات، فالثابت أن أردوغان بات يريد وجوداً دائماً في إقليم كردستان وشمال العراق، والثابت أن موقف كل من أربيل وبغداد ضعيف ولايرتقي إلى مستوى الخطر التركي، وبين العدوان التركي والضعف العراقي بشقية العربي والكردي تبقى الأنظار مشدودة إلى موقف شعبي ينفجر في الشارع ضد العدوان التركي ولاسيما أن هذا العدوان تسبب بوقوع ضحايا مدنيين وتدمير قرى كردية وتهجير أهاليها… ولعل هجوماً شعبياً مماثلاً للذي استهدف القاعدة العسكرية التركية في شيلادزي بهولير  قبل نحو سنة قد يشكل شرارة انتفاضة عارمة تحرج أربيل وبغداد معاً، وتدفعهما إلى التحرك في الداخل والخارج، لإفشال حسابات أردوغان  وحلمه في إقامة سلطنة عثمانية جديدة على أجساد شعوب المنطقة.