عامان على احتلال عفرين .. العدوان التركي مستمر

 

في الذكرى السنوية الثانية لاحتلال عفرين، تبدو الصورة العامة مأساوية، صورة تحمل المزيد من السواد المعبأ بالدماء والدمار والنزوح والألم والقهر، وهو ما يذكرنا بالعبارة الشهيرة للروائي الفرنسي الشهير فيكتور هوغو، عندما قال: ( من هنا مرّ الأتراك، أصبح كل شيء خرابا …)، إذ ما قاله هوغو قبل مئة وخمسين عاما، ينطبق حرفيا على ما جرى ويجري في مدينة عفرين الكردية السورية، ولعل نظرة بسيطة لمجريات العدوان التركي الذي بدأ في العشرين من كانون الثاني / يناير عام 2018 على هذه المدينة، تضعنا أمام حقيقة ما قاله هوغو، بل وربما أكثر.                    يصف سكان عفرين، اليوم الأول لإحتلال المدينة بيوم الجراد، نظرا لزحف آلاف المسلحين الذين قاموا بعمليات نهب وسرقة للمنازل والمزراع والمحال التجارية والسيارات، وما رافق ذلك من هدم وتكسير لمعالم المدينة، ولعل الجميع يتذكر هدم تمثال كاوا الحداد، الذي شكل عبر التاريخ رمزا للحرية لدى الكرد، وكذلك تغير أسماء الساحات الكردية في المدينة وإطلاق أسماء لها علاقة بتركيا عليها، وسط صور أردوغان والعلم التركي، وكانت المنطقة أضحت جزءا من تركيا، كل ذلك وسط تعبئة حملت الطابع الديني (الإسلامي) الذي سخر له أردوغان وسائل آلته الإعلامية والسياسية.  

      

لم تشكل عفرين قبل العدوان التركي تهديدا لتركيا أو لغيرها، وكان أهلها يعيشون بأمان مع قرابة نحو ربع مليون سوري نزحوا إليها من محافظات أخرى، حتى أضحت المدينة رمزا للتعايش، خاصة وأنها لقبت بمدينة الزيتون لكثرة أشجار الزيتون فيها، إلى جانب غنى عفرين بالآثار التاريخية والدينية والحضارية والأثرية، إذ فيها كنيسة "جوليانوس" التي تعد من أقدم الكنائس في العالم والتي فيها ضريح "مار مارون" الذي تعرض للتدمير في قصف جوي تركي. وإلى جانبهما هناك العديد من المعابد الأثرية كمقام "نبي هوري" والمسجد التاريخي الذي أقيم باسمه، ومعبد "زيوس" والمسرح الروماني وآثار "عين دارة" الشهيرة وغيرها من الآثار التاريخية التي تعرضت للتدمير وما تبقى منها للسرقة والنهب، وفي أحسن الأحوال جمعها في متاحف تركيا.       

 

إلى جانب تدمير الهوية التاريخية للمدينة، ثمة تغيير ديمغرافي ممنهج، بشهادة المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وعلى رأسها منظمة هيومن رايتس وتش كما تحدثت في تقريرها العام الماضي عن أوضاع عفرين في ظل الاحتلال التركي، فالمدينة التي كان أكثر من تسعين بالمئة من سكانها كرد، تحول الكرد فيها إلى أقلية، إذ تشير التقارير الواردة من هناك إلى أن الكرد لم يعد يشكلون أكثر من عشرين بالمئة من سكان المدينة، بعد أن استوطنت تركيا آلاف المسلحين مع عائلاتهم فيها، والكثير من هؤلاء ليسوا سوريون، وإنما من الأويغور والتركستان وغيرهم من المسلحين الذين استقدمتهم تركيا من دول آسيا الوسطى والقوقاز، حيث تسعى تركيا إلى جعل التركمان قومية في منطقة عفرين.

 

في المقابل هناك قرابة ربع مليون نسمة هجروا ونزحوا من ديارهم في عفرين هربا من القتل والقصف، وبات هؤلاء يسكنون في مخيمات أقيمت معظمها بريف حلب، حيث لا تسمح سلطات الاحتلال التركي لهم بالعودة إلى منازلهم وديارهم، ومن بقى في عفرين يعاني من شتى أنواع الظلم والانتهاكات، فعمليات ااإعتقال والخطف بهدف دفع الفدية متواصلة، ومصادرة المواسم ولاسيما الزيتون قائم على قدم وساق، والاستيلاء على المنازل والمحال والسيارات باتت من الأمور اليومية، وخطف النساء ولاسيما الايزيديات منهن على غرار "داعش" بات من سلوك المسلحين الذي يعملون تحت الرعاية التركية، حيث الوالي التركي الذي يدير المجموعات المسلحة، فيما لا شكوى تنفع، ولا اعتراض على أمر ما له مكانة عند الحاكم التركي، بل نصيب من يعترض أو يشكوى المزيد من القمع والتعذيب بتهمة التعامل مع المسلحين الكرد والسعي إلى الإنفصال، رغم الجدار العازل الذي أقامه الجيش التركي في العديد من المناطق، وعليه لا أحد يعرف بالضبط  أعداد الضحايا من الشهداء والمعتقلين في الداخل حيث التكتم الشديد على كل شيء، وسط تقارير تشير إلى أن عدد المعتقلين تجاوز ستة آلاف شخص، وبسبب كل ذلك، يتحدث البعض عن رغبة من تبقى في الداخل بالنزوح عن مدينتهم، لأنه لم يعد لديهم القدرة على تحمل كل هذه الجرائم والانتهاكات، فالمجموعات المسلحة قسمت عفرين إلى مناطق نفوذ، والانتقال من منطقة إلى أخرى بات مغامرة غير محسوبة، ومقومات الحياة شبه مفقودة، وفوق ذلك أعلام تركيا وصور أردوغان في كل مكان، والتعليم باللغة التركية وإصدارات جديدة للهويات (البطاقة الشخصية ) تجري على أساس أن المسلحين هم من أهل عفرين، وكذلك الأمر بالنسبة لواقعات الزواج والولادة، حيث سياسة التتريك جارية على قدم وساق، وسط تجويع ممنهج لأهالي عفرين حيث قطع أشجار الزيتون مستمر، والاستيلاء على محصول زيت الزيتون وسوقه إلى تركيا ومن ثم بيعه إلى أوروبا على أساس أنه منتج تركي قائم على قدم وساق.

 

ما ذنب أهل عفرين في كل ما جرى ويجري لهم؟ ولماذا الصمت الدولي على الجرائم التي ترتكب بحقهم ؟ حجة تركيا في احتلال عفرين كانت طرد المسلحين الكرد منها وإنهاء خطرهم المزعوم، لكن الحقيقة أن الذي جرى هو تهجير أهل عفرين من خلال عمليات تطهير عرقي وتغيير ديمغرافي وجرائم وإنتهاكات لا تتوقفان، كل ذلك بهدف القضاء على الهوية الكردية للمنطقة، وإمكانية سلخها عن سوريا على غرار ما جرى لمنطقة لواء اسكندرون التي تحتلها تركيا بعد أن أطلقت عليه هاتاي. ولعل ما زاد من مأساة عفرين هو أزمة إدلب بعد أن لجأت إليها المجموعات المسلحة وعائلاتهم التي نزحت من إدلب بسبب الحرب. 

 

من إدلب إلى عفرين وصولا إلى رأس العين/سري كانيه، الجريمة واحدة، والمجرم يواصل جريمته، مستفيدا من انقسام السوريين وتحارُبِهم، ومن عقده الصفقات مع الكبار على أجساد السوريين، ومن الصمت الدولي الممهور بالمصالح.

 

ما جرى لعفرين جريمة موصوفة في وضح النار، جريمة شجع السلطان التركي أردوغان على المزيد، فمنها توجه إلى رأس العين/سري كانيه، وهو ما شجعه للاستعداد للعدوان على ليبيا وإرسال قواته ومرتزقته إلى هناك، وربما التفكير بالعدوان على دول أخرى وسط تقارير عن زيادة التدخل التركي في كل من الصومال واليمن ودعم الجماعات الاخوانية هناك وتقويتها بهدف إيصالها إلى السلطة وربطها بالمشروع الأردوغاني للسيطرة والهيمنة، إذ أن الثابت في جعبة أردوغان المزيد والمزيد ما لم يتم ردعه وتحرير المناطق التي احتلها، فهو بات الحاكم الذي يريد إعادة بناء امبراطورية أجداده البائدة على دماء شعوب المنطقة، تارة باسم مكافحة الإرهاب، وثانية باسم الشعارات الإسلامية ودعم المظلومين، وثالثة باسم حق بلاده في الطاقة، وهكذا فإن حروبه لن تنتهي إلا بوضع نهاية لإرهابه وفكره ومرتزقته.  

من دون شك، ثمة مسؤولية اخلاقية تقع على عاتق روسيا التي نسجت  تفاهمات كثيرة مع تركيا بشأن مناطق شمالي سوريا وشرقها، وفي الأساس لولا تفاهمها مع تركيا لما تجرأت الأخيرة على غزو عفرين، وعليه فإن مصير عفرين يجب أن لا يبقى معلقا أو متروكا لآلة الاحتلال التركي إلى ما لا نهاية ، وفي الوقت نفسه، فان أولوية القوى الكردية والسورية تبقى تحرير عفرين وكافة المناطق  التي تحتلها تركيا، ومن دون ذلك فان الحل السياسي للأزمة السورية يبقى بعيدا وثمنه المزيد من الدماء والدمار.