خورشيد دلي
ما يجري في إدلب هذه الأيّام، توقّعه كثيرون منذ توقيع اتفاقيات خفض التصعيد في سوريا، ويعود سبب ذلك، إلى أنّ رؤية كل من تركيا وروسيا كانت مختلفة إزاء هذه الاتفاقيات رغم محاولات كل طرف إظهار التوافق إن لم نقل الانسجام إزاء الطرف الأخر، فروسيا تصرّفت على أرض الواقع، على أساس أنّ هذه الاتفاقيات مرحليّة، وأنّ الهدف منها، هو كيفيّة استعادة سيطرة النظام على مناطق خفض التصعيد، وبالتالي جعل انتصاره العسكري انتصاراً سياسيّاً، وتعويمه يصبح واقعاً، فيما تصرفت تركيا على أنّها اتفاقيات طويلة الأمد، وأنّها جزء من الحلّ السياسي، الذي ينبغي من خلاله إحداث تغيير سياسي في بنية الحكم في سوريا، ودون ذلك هو إخلال بهذه الاتفاقيات.
وعليه، يمكن القول أنّ التفاهمات الروسيّة – التركيّة، حملت في طياتها خلافات عميقة منذ البداية، ولاسيّما أنّ للبلدين استراتيجيات متناقضة ليس في سوريا فقط، بل في ليبيا وأواكرنيا وغيرها من القضايا الخلافيّة، ففي ليبيا تتقاتل قوات تابعة للطرفين على أطراف العاصمة طرابلس في الوقت الذي ينسّقان فيه في مناطق أخرى من المتوسط بشأن الغاز والنفط، فيما المشهد لا يختلف كثيراً في أوكرانيا، ويكفي هنا التذكير بتصريحات أردوغان خلال زيارته الأخيرة إلى كييف قبل أيام، عندما أعلن أنّ بلاده لا ولن تعترف بضمّ روسيا إلى شبه جزيرة القرم، وكذلك إعلانه عن تقديم أسلحة جديدة لأوكرانيا، وهو ما شكل صدمة لموسكو، وربما دفع ببوتين إلى لَيّ ذراع أردوغان في إدلب السورية. وهكذا، فإنّ ما يجري في إدلب هذه الأيام، ليس سوى انعكاس لتراكم الخلافات بين موسكو وأنقرة، إذ تدرك الأخيرة أنّ التصعيد العسكري من قبل الجيش السوري في إدلب، هو بضوءٍ أخضرٍ روسيٍّ وبدعمٍ وإشرافٍ مباشرٍ منه، وهو ما يضع تركيا أمام خيارين صعبين، فإمّا الصدام المباشر مع دمشق وحليفيها الروسي والإيراني، وهو ما لا تريده تركيا، نظراً لأنّ مثل هذه المعركة غير مضمونة، بل وستكون خاسرة بدرجة كبيرة في ظلّ فارق موازين القوى وتغيير المعادلات الدوليّة والإقليميّة الخاصة بالأزمة السوريّة، أو الانسحاب من هذه المعركة تدريجياً، وهو ما يعني هزيمة في العمق، حيث التداعيات قد تكون على الهندسة الداخليّة لنظام الحكم في الداخل التركي كبيرة، فضلاً عن انهيار للمجموعات المسلحة التابعة لتركيا واحتمال تحوّل بعضها إلى مشكلات وأعباء أمنيّة في الداخل التركي.
وفي ضوء ذلك، فإنّ أردوغان يبدو في مأزق كبير في إدلب، وخياراته تبدو صعبةً جداً، فالبقاء على التفاهمات السابقة مع الروس لم يعد ممكنا وفق الرؤية التركيّة السابقة، وهذا ما يفسر التصريحات التركيّة حول نهاية مسار أستانا واتفاقيات سوتشي، فيما الاستجابة للشروط الروسيّة باتت مكلفةً، إذ أنّها تعني في النهاية الإذعان للاستراتيجية الروسيّة التي تخرج تركيا من الميدان على الأرض، وتدفعها إلى العودة التدريجيّة للعلاقة السابقة مع دمشق من خلال اتفاقيّة أضنة عام 1998 ولو بصيغةٍ معدّلةٍ، كما أنّ استدعاء أنقرة كلّ من واشنطن وبروكسل للوقوف إلى جانبها في معركة إدلب يبدو صعباً إن لم نقل مستحيلاً، بعد أن ذهب أردوغان بعيداً في نسج خيوط العلاقات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة مع بوتين، ورفضه دعوات واشنطن والأطلسي الانسحاب من صفقة إس – 400، والتخطيط مع الروس لتنفيذ مشاريع استراتيجيّة في مجال الطاقة ونقلها من روسيا إلى أوروبا.
فوق ذلك، فإنّ التحدي الكبير الذي يواجهه أردوغان، هو أنّ دمشق لا تستجيب لدعواته بوقف تقدم الجيش السوري في محافظة إدلب، بل إنّ سرعة تقدمه وسيطرته على معرة النعمان وسراقب واقترابه من إدلب المدينة، يجعل خيارات أردوغان أصعب من أيّ وقتٍ مضى، خاصّةً وأنّ الرهان على موسكو من أجل الذهاب إلى تفاهمات جديدة قد تكون صعبة ومكلفة جداً، لطالما ترى الأخيرة أنّ ما يجري على الأرض يحقّق استراتيجيتها، وهو ما يعني لَيّ ذراع أردوغان وحساباته وخياراته، ولعلّ ما يجعله يحسّ بالمرارة أكثر هو إحساسه بالوحدة في هذه اللحظات الصعبة عليه، وربما الإحساس بتحريض أمريكيّ، هدفه الوقيعة بين التركي والروسي في سوريا، بعد أن كانت روسيا تمارس نفس الأسلوب معه، في دفعه إلى الصدام مع الأمريكي في شرقي الفرات بحجّة محاربة مشاريع التقسيم ومنع الانفصال، حيث استفاد أردوغان من هذه التناقضات في احتلال المنطقة الواقعة بين تل أبيض/ كري سبي ورأس العين/ سري كانيه بحجّة إقامة "منطقة آمنة"، وقبل ذلك في احتلال عفرين.
وربّما نهج الصفقات السابق ولاسيّما مع الروس لم يعد ممكنا بعد الانتشار الروسي في مناطق واسعة في شرقي الفرات مقابل انحسار النفوذ الأمريكي وإعادة انتشار قواته في هذه المناطق، ولعلّ هذا ما يفسر تلك التسريبات التي تحدّثت عن رفض موسكو لصفقة طرحها الجانب التركي، مفادها: التخلّي عن إدلب مقابل السماح للجيش التركي القيام بعمليّة عسكريّة واسعةٍ في عين عيسى وكوباني/عين العرب، حيث أولويّة تركيا باتت محصورة بمحاربة الكرد ولاسيّما الإدارة الذاتيّة في شرقي الفرات.
بين خسارة أردوغان لمعظم المناطق الحيويّة في محافظة إدلب، وتراجع رهاناته على موسكو في نسج تفاهمات جديدة تبقي له وزناً ودوراً مؤثرين في الأزمة السوريّة، باتت خيارات أردوغان ضيقة جداً، ولعلّ انعكاس ذلك سيكون دراماتيكيّاً على المناطق الأخرى التي تحتلها تركيا في شمال سوريا وشرقها في المرحلة المقبلة، ولاسيّما أنّ معظم الجماعات المسلحة السورية فقدت ثقتها بأردوغان بعد أن حوّلها الأخير إلى مرتزقة يقاتلون من أجل أجندته، سواء في سوريا نفسها أو في ليبيا أو حتى في مناطق أخرى.