خورشيد دلي
منذ لقاء فيدان – مملوك برعاية روسية في موسكو قبل نحو أسبوع، أزداد الحديث عن إمكانية عودة العلاقات الرسمية بين أنقرة ودمشق منذ انقطاع هذه العلاقة عام 2012، إثر مطالبة تركيا بإسقاط حكم الرئيس بشار الأسد ودعمها للمجموعات المسلحة بغية تحقيق هذا الهدف، والجميع يتذكر الخطوط الحمر التي رفعها أردوغان، والمُهل التي أعطاها للأسد بالرحيل، لكن الثابت أن المياه لم تجري كما تشتهي سفن أردوغان الذي غير أولوياته، إذ لم يعد يطالب برحيل الأسد، وعمليا لم يبقى له هدف في سوريا سوى محاربة المكون الكردي بحجة مكافحة الإرهاب، حيث ذهب في سبيل ذلك إلى عقد صفقات مع الجانبين الروسي والأمريكي، كما حصل خلال عدوانه على عفرين ورأس العين – سري كانيه، عندما أطلق عمليتي (غصن الزيتون) و (نبع السلام).
في تاريخ العلاقة التركية – السورية الحديثة، ثمّة لحظات كانت الحرب فيها على الأبواب قبل أن تتحول إلى تسويات، كما حصل عام 1998 خلال الأزمة التي عُرفت بأزمة أوجلان، عندما حشدت تركيا قواتها على الحدود، وهددت بعمل عسكري ما لم تسلم أو تطرد دمشق زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان من على أراضيها، فكان لها ذلك، من ثم إعتقال أوجلان في العاصمة الكينية نيروبي، وتسوية الأزمة بين الجانبين، من خلال التوصل إلى إتفاقية أضنة -التي يجري الحديث عنها هذه الأيام- كمدخل لإعادة ترتيب العلاقة بين دمشق وأنقرة. وحينها دخلت دول عديدة على خط تسوية الأزمة، كانت أبرزها مصر وإيران، حيث شكلت تلك التسوية مدخلاً لزيادة النفوذ التركي لاحقاً في سوريا.
اليوم ومع التطورات التي تشهدها الأزمة السورية، ووصول السياسة التركية في سوريا إلى طريق مسدود، والدور الكبير الذي تلعبه روسيا على خط دمشق – أنقرة، ثمّة من يعتقد بإمكانية تكرار سيناريو التسوية بين الجانبين رغم الدور الكبير الذي لعبته تركيا في إرتكاب المجازر بحق الشعب السوري، ولعل ما يدفع هؤلاء إلى هذا الاعتقاد، جملة من العوامل والأسباب، من أهمها:
1- توافق الطرفين على الحد إن لم نقل وضع نهاية للإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، خاصة وأن هذا الأمر شكل أولويةً تركيةً طوال السنوات الماضية حيث شنّت تركيا ثلاث عمليات عسكرية ( درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام ) لتحقيق هذا الهدف، والثابت هنا أن الجانب الأساسي من إتفاق أضنة، يتعلق بكيفية التنسيق بشأن محاربة نفوذ حزب العمال الكردستاني حيث تُبدي دمشق إستعدادها للعودة إلى تفعيل الإتفاق، فيما تحاول تركيا تعديل صيغة الإتفاق كي تحصل على شروط وامتيازات أفضل ولاسيما لجهة التحكم بالشمال السوري والتدخل العسكري فيه بحجة مكافحة الإرهاب.
2- إن روسيا تلقي بثقلها السياسي لإعادة العلاقات الرسمية بين الطرفين، ولهذه الغاية رعت عدداً من اللقاءات بين مسؤولين من الجانبين، وهي تريد من وراء ذلك تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، لعل أهمها القضاء على نفوذ الفصائل والجماعات المسلحة التي باتت شبه محاصرة في محافظة إدلب، وتشكيل جبهة روسية تركية سورية في مواجهة تحدي شرقي الفرات الواقع تحت النفوذ الأميركي، ولعل ما يسهّل مهمة بوتين هنا، هو علاقته المميزة بكل من الأسد وأردوغان، وقدرته من خلال هذه العلاقة على هندسة مسار الأزمة السورية، وقد بدا هذا الأمر جلياً منذ تحسن العلاقة التركية – الروسية عقب المصالحة التي جرت بينهما اثر إسقاط تركيا طائرة روسية، ومن ثم إطلاق مسار أستانة، وكذلك إتفاق سوتشي، وصولاً إلى شنّ عمليتي غصن الزيتون ونبع السلام بموافقة أو تفهم روسي، حيث إستفاد الجيش السوري من عملية نبع السلام كثيراً، إذ شكلت مدخلاً لإنتشاره في مناطق بشرقي الفرات بعد أن كانت واقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية ( قسد ) والنفوذ الأميركي.
3 – أمام تقاطع المصالح بين دمشق وأنقرة والرعاية الروسية لها، قد لا يجد أردوغان أي عائق للقول: عفى الله عن ما مضى، ووقف دعمه للجماعات المسلحة في إدلب، بل والمساومة على رأسها مقابل موقف روسي داعم لأردوغان في الأزمة الليبية حيث نقل المسلحين والمرتزقة من هناك إلى ليبيا يجري على قدم وساق، وقد كان لافتاً حديث أردوغان الموجه لهذه الجماعات وكذلك الإئتلاف السوري المعارض، عندما أعلن قبل أيام أن الحلول السياسية فشلت بشأن إدلب وعلى الجماعات المسلحة الدفاع عن نفسها، في إشارة قوية إلى تخليه عن هذه الجماعات أو بشكل أدق دفعها إلى الإنخراط في مشروعه بليبيا.
4- إن أردوغان وفي طريقه لإعادة العلاقة مع دمشق، لن يجد معارضة لمسعاه في الداخل التركي، بل على العكس تماماً قد يجد ترحيباً كبيراً من أحزاب المعارضة التركية التي عارضت سياسة أردوغان بالملف السوري، وطالبت منذ زمن بإعادة العلاقات الرسمية مع دمشق للتخلص من أعباء اللاجئين السوريين عبر إعادتهم إلى بلدهم. 5- في المقابل فإن المسؤولين السوريين أعلنوا أكثر من مرة عن إستعدادهم لإعادة العلاقة مع تركيا شرط إنسحابها من الأراضي السورية، ووقف دعمها للفصائل والجماعات المسلحة، ولعل دمشق ترى من مصلحتها الإنفتاح على الخارج في ظل الحصار المفروض عليها حتى لو كان لو كانت الدول المعنية هي تركيا المتورطة في الدم السوري حتى النخاع.
6- ثمة مصالح إقتصادية كبيرة قد تدفع بالطرفين إلى إعادة العلاقات بشكل تدريجي، ومثل هذا الأمر يصبح ملحّاً في ظل الأزمة الإقتصادية في البلدين، ولاسيما في ظل إنهيار الليرتين السورية والتركية أمام الدولار، حيث الجغرافية بين البلدين تحمل معها مصالح تجارية وإقتصادية وزراعية ومائية وصناعية كبيرة، كما كان في السابق حيث كانت الأراضي السورية تشكل معبراً للقوافل التجارية التركية ولحركة عبور الشاحنات التركية إلى العالم العربي.
في الواقع، قد يرى البعض صعوبة إن لم نقل إستحالة عودة العلاقات الرسمية بين أنقرة ودمشق بعد كل ما جرى، لكن الثابت هنا، والذي يجب معرفته جيداً، هو أن أردوغان لا يفكر بهذه العقلية وبهذه الطريقة، وأنما يفكر أولاً وأخيراً بمصلحة بلاده وحكمه وأجندته، إذ الرجل معروف بقدرته على عقد التحالفات ومن ثم الإنقلاب عليها، والعكس أي الإنقلاب على الحلفاء ومن ثم العودة إلى التحالف معهم إذ أقتضت مصلحته، وسبق أن تصالح مع بوتين وأصبحا حليفين حميمين بعد أن كان يصفه بقاتل الشعب السوري، كذلك كان يشنّ الهجوم تلو الهجوم ضدّ القيادة الإيرانية بسبب سياستها في سوريا، حيث كان يصفها بأن الحكومة التي تنفذ السياسة الشيعية الصفوية في المنطقة، قبل أن يتفاهم مع إيران ويقف إلى صفها إقليمياً، وينسّق معها في آستانة وعلى الأرض في سوريا والعراق، وعليه عندما يرى أردوغان في إعادة العلاقة مع دمشق مصلحة لبلاده وحكمه وسط إشتعال الأزمات في المنطقة، لن يتوانى عن المصالحة مع صديقه السابق بشار الأسد، فأردوغان بارع في الإنقلابات حتى لو كان على نفسه من أجل أردوغان الثاني فالثالث.