خورشيد دلي
يشكل مقتل الجنرال قاسم سليماني بقصف صاروخي أمريكي بالقرب من مطار بغداد الدولي، عنوانا لمرحلة جديدة من السياسة الأمريكية تجاه إيران وسياستها الإقليمية من جهة، ولقواعد لعبة الاشتباك بين الطرفين من جهة ثانية، إذ للمرة الأولى في التاريخ تستهدف واشنطن رمزا إيرانيا بهذا المستوى، حيث كان سليماني بحق مهندس السياسات الإيرانية في ساحات العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة، ويقوم بدور الأوكسترا في قيادة الفصائل والمجموعات المسلحة التابعة لإيران في هذه الدول والمناطق. ولعل توقيت عملية القتل حمل مؤشرين:
الأول: أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دخل في العام الانتخابي، ولديه الكثير من المشكلات المهددة لفرصته الانتخابية الثانية، لذا هو بحاجة إلى عمل نوعي يحوله إلى رصيد سياسي وانتخابي في المرحلة المقبلة، وثمة من يرى أن مقتل سليماني أمَّن له إلى حد كبير هذه الفرصة.
الثاني: أن إيران ذهبت بعيدا في ضرب المصالح الأمريكية خلال الفترة الأخيرة، من إسقاط طائرة أمريكية في مضيق هرمز إلى قصف منشآت أرامكو النفطية في السعودية وصولا إلى مهاجمة السفارة الأمريكية في بغداد ومحاصرتها، والحديث عن استعدادات كانت تجري للقيام بهجمات كبيرة على مصالح أمريكية في الشرق الأوسط، كل ذلك دفع بالجانب الأمريكي إلى قلب الطاولة على طهران ورسم معادلة جديدة للمواجهة، وهي مواجهة لن تكون في مصلحة إيران إذا تحولت إلى مباشرة، وهذه الأخيرة تختلف عن حرب الأذرع التي تجيدها إيران جيدا، ولعل هذا الأمر يشير إلى أن القراءة الإيرانية للموقف الأمريكي لم تكن دقيقة، إذ أنها اعتقدت أن الإدارة الأمريكية لن تقدم على عمل نوعي ضدها، كما هو حال قتل سليماني، وربما السلوك الإيراني هذا، كان نابعا من شدة تألمها بسبب العقوبات الأمريكية عليها عقب إلغاء واشنطن الاتفاق النووي مع إيران، حيث ثمة من يرى أن التصعيد الإيراني ضد واشنطن كان هدفه جر الأخيرة إلى مفاوضات لرفع العقوبات عنها.
سيناريوهات الرد ومخاطر المواجهة
من دون شك، تعرضت إيران بمقتل سليماني إلى ضربة هي الأقصى منذ الثورة الإيرانية عام 1979، وعليه ثمة جزم بأن إيران سترد على الضربة الأمريكية، خاصة وأن سقف الخطاب الإيراني بهذا الخصوص وصل إلى حده الأقصى. فما هي هذه السيناريوهات؟
الأول: سيناريو القصف المباشر، ويقوم هذا السيناريو أساسا على أن تقوم إيران بشن هجوم صاروخي انطلاقا من أراضيها على قواعد ومنشآت أمريكية في المنطقة، قد تكون هذه القواعد في دول الخليج العربي والعراق وسوريا، لكن مثل هذا الرد قد يستوجب ردا أمريكيا أقوى، ويتحول القصف المبتادل إلى مواجهة مباشرة ومفتوحة، وهو ما سيشكل كارثة على إيران والمنطقة، خاصة وأن واشنطن بررت قتلها لسليماني بالرد الوقائي.
الثاني: سيناريو الهجوم بالوكالة، خاصة وأن لإيران خبرة كبيرة في هذا النوع من الهجمات، حيث تعتمد في ذلك على أذرعها في المنطقة، كما هو حال حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن، ويقوم هذا السيناريو على توجيه ضربات لمصالح وحلفاء أمريكا في هذه الدول، ولعل مثل هذا السيناريو هدفه العودة إلى قواعد الاشتباك قبل مرحلة قتل سليماني، حيث يحتمل هذا السيناريو أقل المخاطر لجهة عدم تحول الضربات المحدودة إلى مواجهة مباشرة ومفتوحة، وربما الولايات المتحدة نفسها تتفهم مثل هذا السيناريو إذا كان ذلك سيحقق أهداف الطرفين.
الثالث: سيناريو عدم الرد، ومع أن البعض يستبعد هذا السيناريو إلا أنه يجب عدم استبعاده في ظل براغماتية السياسة الخارجية الإيرانية والمكاسب المنتظرة من هكذا سيناريو للقيادة الإيرانية، فمن جهة مثل هذا السيناريو قد يكسبها تعاطفا دوليا ويشكل ضغطا كبيرا على الإدارة الأمريكية وتحديدا الرئيس ترامب، وربما تراهن إيران بهذه الطريقة على خسارة ترامب في الانتخابات المقبلة، تطلعا إلى سياسة أمريكية جديدة مع إيران. ومن جهة ثانية، فإن مثل هذا السيناريو يمكن استثماره في الداخل الإيراني لجهة إظهار المظلومية لتبرير سلوكيات النظام وتبرير الانهيار الاقتصادي الجاري، بما يؤدي كل ذلك إلى ترسيخ النظام بعد أن فقد الكثير من مصداقيته ومقومات خطابه.
أين تركيا؟
في الواقع، مقتل سليماني ليس مجرد حدث يخص العلاقة الإيرانية الأمريكية فقط، إذ من شأن مقتله ظهور تداعيات على الوجود الإيراني في عدد من ساحات المنطقة ولاسيما في سوريا والعراق، وهذا سيؤثر على اللاعبين الآخرين ولاسيما تركيا التي لها علاقات مركبة مع إيران، فالعلاقات بينهما بقدر ما تبدو خلافية في الشكل بقدر ما تبدو رهينة مصالح مشتركة، وحرص قادر على تطويع هذه الخلافات لصالح التفاهمات، ولعل سوريا كانت مثالا بارزا على هذه المعادلة في العلاقة بين الجانبين، حيث كان سليماني ورئيس الاستخبارات التركي حقي فيدان مهندسا هذه السياسة في سوريا.
في الواقع، رغم أن البعض قد يعتقد بأن تركيا ستكون مستفيدة في سوريا من غياب سليماني، وأن تركيا قد تسعى للاستفادة من غيابه للتمدد أكثر من التمدد في سوريا، وتحديدا في ريف حلب إلا أن الجانب السلبي من هذا الغياب ربما يكون أكبر من ذلك بكثير، فغياب سليماني قد يؤثر على التنسيق بين الجانبين، إذا ما علمنا أن الصفقات التي جرت في سوريا كانت غالبا ما تتم وفقا لتفاهمات بين الجانبين إضافة إلى روسيا، فقد كان سليماني وفيدان مهندسا نقل المسلحين من المناطق السورية المختلفة إلى محافظة إدلب، وكانا مهندسا اتفاقات أستانا مع الروس، وراسما حدود التفاهمات بشأن العمليات العسكرية التركية في سوريا (درع الفرات – غصن الزيتون – نبع السلام)، والقضية تتجاوز الساحة السورية إلى العراق، وتحديدا إقليم كردستان العراق، إذ كان لافتا موقف الجانبين من الاستفتاء الذي أجراه إقليم كردستان العراق على الاستقلال قبل أكثر من سنتين، وكيف ضغطتا إيران وتركيا لإفشال هذا الاستفتاء قبل أن يظهر دور سليماني في صفقة كركوك والتي شكلت خسارة قاسية لحكومة إقليم كردستان العراق.
وعليه يمكن القول إن تركيا تشعر بخسارة في مكان ما من مقتل سليماني، ولعل وصف أردوغان في رسالته إلى القيادة الإيرانية بمناسبة مقتل سليماني للأخير بـ"الشهيد" يؤكد هذا الأمر قبل أن يتراجع أردوغان عن هذا الوصف غير مصدر مقرب منه. والسؤال الأكبر هنا، كيف سيكون الموقف التركي إذا اندلعت مواجهة مباشرة بين إيران وأمريكا على خلفية مقتل سليماني؟.
من دون شك، الموقف التركي حساس جدا، فهي من جهة حليفة تاريخية للولايات المتحدة ومن جهة ثانية مصالحها كبيرة مع إيران، وعليه ربما تسعى من جهة إلى إظهار نفسها بمظهر الوسيط الداعي إلى الحوار بين طهران وواشنطن وضبط الأمور كي لا تخرج عن السيطرة، ومن جهة ثانية تظهر الحياد تحسبا لأقل الخسائر من مواجهة محتملة، وفي الحالتين ستبقى عيون تركيا متجهة إلى السياسة الإيرانية في سوريا بعد مقتل سليماني، وكيف سيتصرف خلف سليماني في الملفات المشتركة بين الجانبين في سوريا والعراق؟.