حزب السعادة .. كل الطرق إلى الأناضول مغلقة

حزب السعادة - حملة انتخابات البلدية في تركيا - gettyimages
حسين جمو – NPA
لعبت مجموعة من الأحزاب الصغيرة في تركيا، دور “المفتاح” في هزيمة أو انتصار الأحزاب الكبيرة في الانتخابات البلدية التي جرت في 31 آذار/ مارس الماضي. لا تأتي أهمية هذه الأحزاب من قوتها، بل من “توازن القوى” بين الأحزاب الكبيرة. فنسبة 1.2% التي نالها مرشح حزب السعادة في اسطنبول، كانت كافية لحسم النتائج لصالح حزب العدالة والتنمية في حال قرر الحزب أن يدعم بن علي يلدريم.
حقق حزب السعادة 2.71 % من الًأصوات في الانتخابات البلدية، بما يعادل 1.257 مليون صوت في أنحاء تركيا، وحصل على 9 بلديات للنواحي. لكن الطريق إلى الأناضول، حيث معقله وموطنه، ما زال مغلقاً في وجهه، ولم يتبق له سوى بعض طرق كردستان الفرعية.
الفراغ الانتخابي الموجّه
نال الحزب المرتبة السادسة في النتائج، ونافس بقوة في أربع ولايات، هي أورفا وبدليس وأديامان، وتقع في المناطق الكردية، وأردو على البحر الأسود، وهي مدينة غير تاريخية كانت ثكنة للجيش العثماني وحملت اسم “الثكنة”، وتعيش فيها أقلية ناطقة باللغة الجورجية. أفضل النتائج التي حققها حزب السعادة كانت في أورفا، ونال 36% لصالح مرشحه لرئاسة بلدية المحافظة، صباح الدين جوهري، وهو شخصية محلية بارزة، من عشيرة كردية.
لدى مقارنة نتائج الانتخابات الأخيرة مع انتخابات 2014 البلدية، نجد فارقاً كبيراً في أصوات الحزب في أورفا، ففي 2014 حصل على 2.2%، بما يعادل 17 ألف صوت، فيما حصل على 308 آلاف صوت في الانتخابات الأخيرة. هذا الفارق ليس تحولاً لصالح شعبية الحزب طالما أن السبب الرئيس أن حزب الشعوب الديمقراطي لم يتقدم بأي مرشح للتنافس على بلدية المحافظة، ليترك هذا الفراغ الانتخابي لصالح مرشح حزب السعادة، كتكتيك انتخابي في محاولة الإطاحة بحزب العدالة والتنمية من التحكم بهذا الولاية الزراعية الغنية.
لم يلجأ حزب السعادة لإجراء تحالفات استراتيجية. كما لا تشير الأرقام إلى أنه أفسح المجال لحزب الشعوب في مناطق أخرى، مقابل “الفراغ الموجه” الذي توفر لحزب السعادة في أورفا نتيجة الانسحاب الطوعي للحزب الكردي. ففي ويرانشهر، شرق أورفا، كان الفارق بين حزب الشعوب وحزب العدالة أقل من 1%، ولو أن حزب السعادة وجه أنصاره الـ3.3 % للتصويت لحزب الشعوب، كان الأخير سيطيح بحزب العدالة في ويرانشهر. وعلى غرار الأمر نفسه، تسبب حزب السعادة بخسارة حزب الشعوب في حلوان، وهي مقاطعة كردية شمال أورفا، فقد حصل على 16% مقابل 49% لحزب العدالة، و33% لحزب الشعوب. كذلك الأمر في بيرجيك، حيث كان الفارق بين العدالة والتنمية وحزب الشعوب 6% لصالح الأول، فيما نال حزب السعادة 12%.
في أديامان، تكررت معضلة حزب الشعوب، في الانسحاب الطوعي، ويبدو أن هذا الانسحاب كان كنزاً عثر عليه حزب السعادة في طريق الانتخابات. فقد نال 28% في أديامان، وحل في المركز الثاني بعد حزب العدالة والتنمية، وفاز بناحية “كاهته” متقدماً على حزب العدالة بفارق 1%، مستفيداً من عدم سحب حزب الحركة القومية مرشحه الذي نال 1.3%، وكان كافياً لخسارة العدالة والتنمية. وناحية كاهته، باعتبارها ذات غالبية كردية، كان الحزب الممثل للأكراد، يقدم مرشحاً في معظم الانتخابات، وينال بحدود 10 إلى 15%، باستثناء الانتخابات الأخيرة لم يقدم أي مرشح.
في بدليس، نال حزب السعادة المركز الثالث بـ18% من الأصوات، وفاز في ناحية “خيزان” بـ35% متقدماً على كل من حزب العدالة وحزب الشعوب. ولهذه الجماعة قاعدة انتخابية قديمة في خيزان، وليس نتيجة لـ”فراغ الصدفة” كما الحال في أورفا، فقد نال في الانتخابات الماضية عام 2014 نسبة 23% في خيزان، وهي بلدة كردية يتحدث سكانها اللهجة الزازية. الملاحظ أن أصوات “السعادة” ارتفعت في مركز المدينة من 2.5% إلى 18% مستفيداً من تراجع حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان يدير بلدية المدينة في 2014 وتراجعت أصواته إلى 33% في الدورة الأخيرة في المدينة، وهي كتلة يبدو انها تحركت باتجاه حزب السعادة، لأن حزب العدالة لم يحقق ما يزيد عن رقمه السابق سوى نسبة ضئيلة (من 40 إلى 43%).
حقق اختراقاً كبيراً في أصوات حزب الشعب الجمهوري في ولاية اوردو على البحر الأسود، ونال 26% مقابل 1% في انتخابات 2014. وتظهر مقارنة الأرقام بين الدورتين، أن هذه القفزة في الأصوات جاءت على حساب تراجع حزب الشعب الجمهوري من 34 إلى 15%.
خارج التنافس على البلدايات الكبيرة، خاض الحزب منافسة في العديد من بلديات النواحي، وحصل على “غونغوش” غرب دياربكر، مستفيداً على الأرجح من تشتت أصوات كل من حزب الشعوب وحزب الشعب الجمهوري، كما نال أصواتاً في مقاطعات أخرى بدياربكر من دون ان يفوز فيها، مستفيداً من أصوات حزب الله (هدى بار) الكردي. وفي باطمان (الكردية) حصل على بلدية “بشيري”.
الخروج من الأناضول
يوضح شعار حزب السعادة (هلال وخمس نجوم) عقلية وفلسفة الحزب في السياسة والمجتمع. وتكشفت حجم النجوم أهمية المعاني بالترتيب. فالنجمة الكبيرة في الوسط تمثل السمعة والشرف، والنجمتان الأقل حجماً تمثلان الرفاهية والتنمية، ووالعدالة والحقوق. أما النجمتان الصغيرتان في جوف الهلال فهما السلام والتسامح، وحقوق الإنسان والحريات. نجمة الحقوق والحريات أصغر نجمة إلى جانب التسامح.
يطمح زعيم حزب السعادة، كرم الله أوغلو، إلى دولة علمانية على النمط البريطاني، حسب تعبيره، حيث الانسجام بين الدين والدولة، بمعنى دولة علمانية بمضمون ديني فضفاض. ويؤيد حزبه اتفاقية لـ”وضع خاص” مع الاتحاد الأوروبي بدلاً من العضوية، مع تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة التي يقول إنها تضررت في ظل حكم أردوغان.
في إحدى التجمعات الانتخابية، احتج كرم الله أوغلو، على خضوع الإعلام الرسمي لأردوغان، وخاطبه قائلاً: “إذا كان الإعلام ملكك، فنحن ملوك مواقع التواصل الاجتماعي”.
تعود جذور حزب السعادة إلى عائلة الأحزاب التي أسسها نجم الدين أربكان، بدءاً من حزب النظام الوطني في عام 1970 وصولاً لحزب الرفاه ثم الفضيلة في 2001.
فقد أربكان قاعدته الانتخابية بشكل كلي مع تأسيس حزب العدالة والتنمية في عام 2001، والذي بات الحزب المعتمد لدى ما يمكن تسميته “النظام العالمي السفلي”، وبات النموذج الذي يعتمده الغرب، عبر مراكز الدراسات والجامعات العريقة، كنموذج لـ”دمقرطة الإسلام” وتحرير الرأسمال من النزعة الحمائية التي تميز بها أربكان، خصوصاً دعم الصناعات المحلية ومناهضة الاستيراد الفوضوي الذي بات في السنوات الأخيرة أداة علاقات عامة لحزب العدالة في علاقاته التجارية الدولية.
تلخص شهادة فهمي جالموق، الذي شغل لسنوات طويلة رئاسة جمعيات الأئمة والخطباء، وكان صحفيًا مقربًا بشدة من أربكان، لموقع “أحوال تركية”، الأرضية الفعلية لانفصال أردوغان ورفاقه عن حزب الرفاه وتأسيس حزب العدالة والتنمية:
“الانقلاب العسكري في تركيا يوم 28 فبراير 1997، كان بمثابة عملية أخذ الحركة الإسلامية من نجم الدين أربكان، وتسليمها لفتح الله غولن. سمعت هذه الكلمة لأول مرة عام 2001، فقلت حسنًا”.
نجح حزب العدالة في استمالة القواعد الانتخابية الموالية لأربكان بشكل جماعي، بل أيضاً استعادة ما فقده أربكان عام 1978 حين انتفضت عليه “النقشبندية” المنقادة للداعية زاهد كوتكو، بسبب أسلوبه المركزي في إدارة سياسات الحزب. وحين تأسس حزب العدالة، وجدت القاعدة النقشبندية التركية فرصة للتخلي عن حزب الطريق القويم، الذي كانت تتزعمه طانشو تشيلر، والعودة إلى حزب لا يحمل أيديولوجية تصادمية مع الدولة.
المجتمع والتاريخ والجغرافية
من المشكلات التي يواجهها حزب السعادة عدم قدرته على تجديد قاعدته الانتخابية. فشريحة الأصوات الانتخابية التي يمثلها يغلب عليها كبار السن. وهو يحاول الاستفادة من فلول خصمه اللدود، فتح الله غولن. لكن الحزب لم يصل إلى النقطة الطموحة التي تحلم بها معظم الأحزاب السياسية، وهو ان يكون “البديل الوحيد” او الحزب الذي “لا بديل عنه”، على غرار حزب العدالة الذي أوصل شريحة هائلة من الناخبين في تركيا إلى هذه القناعة. وتحقق له ذلك على نطاق ضيّق في الانتخابات البلدية، حين لم يجد حزب الشعوب بديلاً ينافس أردوغان سوى حزب السعادة.
تاريخياً، هناك لطخة سوداء ما تزال تلاحق “كرم الله أوغلو”، فقد كان رئيساً لبلدية سيواس عام 1993 حين هاجمت مجموعة من المتطرفين الإسلاميين الموالين للحركة القومية، فندقاً وأحرقته، بهدف قتل الكاتب الساخر عزيز نيسين، فأودى هذا الهجوم بحياة 37 شخصاً، غالبيتهم من المثقفين العلويين، في واحدة من أسوأ الهجمات الطائفية تحت أنظار الدولة. حينها قيل إن “كرم الله أوغلو” كان ناقماً على نيسين الذي كان يريد ترجمة رواية “آيات شيطانية” للتركية.
جغرافياً، يعد حزباً بلا موطن. فانطلاقة عائلة الأحزاب الأربكانية انطلقت من الأناضول، من قيصري وقونية وونيدة ويوزغات، وهيمنت على هذه المنطقة انتخابياً. كان هاجس أربكان إدخال التصنيع إلى وسط الأناضول، وإنهاء هيمنة اسطنبول وأنقرة على تركيا، ونجح في ذلك حتى ظهور حزب العدالة، الذي قدم العقود الإنشائية الاسطنبولية لرأسمالية الأناضول، واستولى على إرث حزب السعادة.. الحزب الأناضولي السابق الذي لم يعد له من مكان سوى بعض نواحي كردستان الشمالية.. أو ما يسميه “جنوب شرق الأناضول”.