من “أخوة التراب” إلى “أهل الراية”.. أثر العلاقات السياسية في تناول الحقبة العثمانية بالدراما السورية
دمشق – أحمد كنعان – نورث برس
تشير العديد من الوقائع إلى أن العلاقات السياسية السورية التركية وتشابكاتها، وتطورها سلباً أو إيجاباً، أثرت في صناعة أعمال درامية سورية، إذ كشف الكاتب فؤاد حميرة أن نص مسلسله "الزبال" أرسل للسفير التركي بدمشق الذي طلب منع تصويره وتمت الاستجابة لطلبه أيام كانت العلاقات السورية التركية طيبة، بينما افتخر المؤلف السوري أحمد حامد بثناء السفارة التركية على عمله "أهل الراية" المنجز في العام 2010.
وتتناقض الصورة التي قدمتها الدراما السورية حول الحقبة العثمانية، خاصة في أعمال البيئة الشامية، بين التركيز على الجانب "الوحشي" وما ارتكبه العثمانيون من مجازر بحق شعوب المنطقة التي سيطروا عليها على مدى أربعة قرون، وبين تقديمها على أنها حقبة الدولة "العلية" التي تتولى أمر المسلمين، والدولة المثال التي حكمت بالعدل على رعاياها.
ويهب مختصون إلى أن المخرج نجدت أنزور قدم الحقبة في صورة واقعية في مسلسل أخوة التراب 1996، حيث صور جزءاً من الانتهاكات والممارسات التي اتبعتها الدولة العثمانية بحق مختلف شعوب المنطقة لتوطيد حكمها على مدى قرون، لكن في مقابل هذه الواقعية كانت هناك دراما قدمت العثمانيون على أنهم "الدولة العلية" وفق التعبير الذي ساقه العثمانيون بين العامة في بلاد الشام وربما غيرها من المناطق التي سيطرو عليها، كمسلسل أهل الراية الذي قدم السيطرة العثمانية بصورة لم تخلوا من ترويج وقدم صورة سلبية السوريين الذين وقفوا في مواجهة ظلمها وعلقت مشانقهم في ساحة المرجة إلى رعية مطيعة، مختصراً صورتهم في شخوص تمجد العثمانيين ولا تخاطبهم إلا بـ "مولانا".
فهل يحق لصناع عمل درامي تزوير الحقائق التاريخية وتجييرها لخدمة المواقف السياسية المتغيرة، أم أنهم مطالبون بالموضوعية بعيداً عن ميولهم السياسي؟.
"المصلحة على حساب الحقائق"
الصحفية سلوى عباس، المتخصصة في الصحافة الثقافية، رأت أن الارتهان لرأس المال الخارجي قد يؤدي إلى تزييف الحقائق وتقديمها لمصلحة صاحب رأس المال وكذلك تقديم موضوعات تناسبه.
وقالت "إذا اعتبرنا الزمن هو الناقد الأهم فإن مسلسل أخوة التراب الذي أنتج برأس مال سوري خالص قدم وثيقة تاريخية بصرية تناولت مرحلة النضال ضد الاحتلال العثماني وجرائمه ولا يخفى على أحد الدور الذي تلعبه الدراما في صياغة وعي المتلقي من خلال مخاطبة وجدانه".
وأوضحت "أننا اليوم نشهد على تاريخ يعيد نفسه فالاحتلال التركي يستبيح أرضنا وشعبنا وهذا يؤكد أننا لم نفهم الدرس من أول مرة ولماذا درامانا غائبة عن هذا الحدث الأهم؟"، بحسب تعبيرها.
وترى "عباس" أن الدراما لم تتصدَ لمهامها في "وطن مذبوح للسنة العاشرة على التوالي".
أعمال مرتهنة للعلاقات السياسية
أما الصحفية رشا الصالح فقالت، "لعل الصرخة التي سمعناها في مسلسل أخوة التراب (كل شي إلا الخازوق يا سيدي) كفيلة بتصوير حجم الوحشية الذي كان يمارسه العثماني في هذه البلاد، وقد تفاوتت المسلسلات التي تناولت تلك الحقبة بترجمة حجم العنف والإرهاب الجسدي والنفسي الذي مارسه الاحتلال العثماني".
وعن الأعمال التي وصفت العثمانيين بـ "الدولة العلية"، قالت الصالح: "لا يوجد دقة مرجعية ولا مصداقية في سرد الأحداث التاريخية وهي أعمال تبدو فنتازية مرتهنة للعلاقات السياسية المتغيرة وليست مرتهنة للحقائق التاريخية".
وتعتقد "الصالح" أن "تأثير الدراما عموماً في وعي المتلقي هو تأثير آني ولحظي، ولا يتجاوز الانفعالات فهي لم ترتق إلى المستوى الذي يستطيع أن يعلو توثيقاً وبصرياً بالمشاهد ووعيه ليعرف بحجم الكارثة والويل الذي لحق بذاك الجيل وما قاسته البلاد خلال تلك الفترة".
التاريخ يعيد نفسه
السيناريست نعيم الحمصي رأى أن الدراما السورية توقفت عن طرق الأبواب الصحيحة وانحدرت لهوة المسوقين، "فالأعمال التي تدعي أنها تحاكي البيئة الشامية هربت أو تهربت وأخفت عن عمد ربما حقبة زمنية مفصلية في تاريخ دمشق".
ويضيف "الحمصي" أن هذه الدراما "ركزت بدلا عن ذلك وبشكل مقصود على مقاومة الاحتلال الفرنسي على الرغم من قصر عمره نسبياً أمام الاحتلال العثماني الذي يعتبر موضوعاً ساخناً لأنه يعيد نفسه اليوم بوقاحة".
ويعتبر "الحمصي" أن هذا "التجاهل المقصود لا يمكن فهمه إلا في سياق التوجه الديني السلفي"، بحسب تعبيره.
وينتقد السيناريست، أعمال شهيرة كأخوة التراب و الحصرم الشامي، متابعاً "رغم أنها تناولت الظلم والجور والعادات التي فرضت قسراً على المجتمع السوري كالنقاب وغيره، إلا أنها ابتعدت عن الغوص في تفاصيل شهداء الفكر المناهض للرجعية وعتمت على الحركات التحررية والفكرية التي نشأت في تلك الفترة كجمعية سوريا الفتاة وغيرها".
وتأتي "الطامة الكبرى عندما راح صناع الدراما الشامية يكرسون فكرة أن العثماني مقدس ومنقذ من خلال عبارات مولانا المعظم ومولانا السلطان الأعظم وحامي المسلمين، فأثّرت بوعي جيل كامل فصار مغيباً فكرياً وممسوح الذاكرة"، بحسب وصف الحمصي.
وقال "هكذا أعمال بدل أن تكون سلاح لنا صارت سلاح مسلط على رقابنا".
وبرأيه "فقد آن الآوان لإيقاف الأعمال التي تسيء لتاريخنا وتعبث بعقول الأجيال وأن نعيد نبش الأوراق وأن نقدم وجبة دسمة من الحقائق".
غياب الموضوعية
أما الكاتب والمؤرخ محمود عبد الكريم فيرى أن، "الدراما لا تكون حقيقية إذا لم تكن موضوعية فإذا كان هناك من يسمي الاحتلال العثماني الدولة العلية وأراد الكاتب من باب الموضوعية أن يقول ذلك عليه بالموضوعية ذاتها وأن يوضح كمية الجرائم والانتهاكات اللإنسانية التي قامت بها هذه الدولة".
ويوضح أنه لا يجب على الكاتب الدرامي أن يرتهن للعلاقات السياسية "فالحقيقة تظل حقيقة سواء كانت العلاقات طيبة أو سيئة بين الدول ولا يجوز أن يتهاون بالمصداقية التاريخية في سبيل التسويق أو لأي سبب آخر".